ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره ؛ قال تعالى مخبرا عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم (مُتَّكِئِينَ) أي : لهم ما ذكر حال الاتكاء ، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين (عَلى فُرُشٍ) وعظمها بقول تعالى مخاطبا للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الديباج ؛ قال ابن مسعود : وأبو هريرة : إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا ، فما ظنك بالظهارة؟.
وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من استبرق فما الظاهر؟ قال : هذا مما قال الله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] وقال ابن عباس : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى ؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عزوجل ، لكن قال القرطبي : وفي الخبر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : أنه قال : «ظواهرها نور يتلألأ» (١). وقيل : الظهائر من السندس. وعن الحسن البطائن : هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة : والعرب تقول للبطن ظهرا فيقولون : هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجها ، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا ، وقالوا : لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء ؛ وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر.
تنبيه : قال الرازي : الاستبرق معرب وهو الديباج الثخين ؛ أي : وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيا لأن العربي ما نطقت به العرب وضعا واستعمالا من لغة غيرها ، وذلك كله سهل عليهم وبه يحصل الإعجاز بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم ، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب المتنعم البدن بخلاف المريض والمهموم.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) أي : ثمرها (دانٍ) أي : قريب ؛ قال ابن عباس : تدنو الشجرة حتى يجنيها وليّ الله تعالى إن شاء قائما ، وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا ، وقال قتادة : لا يردّ يده بعد ولا شوك.
قال الرازي : جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتكىء وفي الجنة هو متكىء والثمرة تتدلى إليه ؛ وثانيها : أنّ الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها وفي الآخرة هي تدنو إليهم وتدور عليهم ؛ وثالثها أنّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها وثمار الجنة كلها تدنوا إليهم في وقت واحد ومكان واحد.
(فَبِأَيِّ آلاءِ) أي : نعم (رَبِّكُما) أي : المربي لكما الذي يقدر على كلّ ما يريده (تُكَذِّبانِ) أمن قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار أم من غيرها؟.
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان قال تعالى : (فِيهِنَ) أي الجنان التي علم
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٧ / ١٧٩.