عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها ، فبلغ ذلك النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : «أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار ، فلما نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منه فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولو لا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت ، فأمسك رسول الله صلىاللهعليهوسلم عما أراد وكفر عن يمينه» (١). وقال المسلمون أيضا : لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم يعني على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
القول الثاني : أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [البقرة ، ١٩٠] وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. القول الثالث : أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين. قال الرازي : وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال : إنه تعالى أمر محمدا صلىاللهعليهوسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إنّ تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانيا وبالشتم ثالثا. ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسّلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ أجيب : بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
تنبيه : أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ، ورتب ذلك على أربع مراتب.
المرتبة الأولى : قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري الجزء السابع ، كتاب المغازي.