الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى : (وَأَنْهاراً) عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) [فصلت ، ١٠]. وقال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه ، ٣٩]. وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. (وَ) جعل لكم فيها (سُبُلاً) أي : طرقا مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
(وَ) جعل لكم فيها (عَلاماتٍ) أي : من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها برا وبحرا ليلا ونهارا نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى : (وَبِالنَّجْمِ) أي : الجنس (هُمْ) أي : أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. (يَهْتَدُونَ) وقدّم الجارّ تنبيها على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة ، وقيل : المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل : الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته ، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء. (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) أي : هذه الأشياء الموجودة وغيرها (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل : ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ أجيب : بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها فأنكر عليهم ذلك بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ.) فإن قيل : من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحا لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضا بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ أجيب : بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل ، ٢٠] وإلى قول الشاعر (١) :
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي |
|
فقلت ومثلي بالبكاء جدير |
__________________
(١) الأبيات من الطويل ، وهي للمجنون في ديوانه ص ١٠٦ ، وللعباس بن الأحنف في ديوانه ص ١٦٨ ، وتخليص الشواهد ص ١٤١ ، وللعباس أو للمجنون في الدرر ١ / ٣٠٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٣٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٨٠ ، ٨١.