تنبيه : في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما : أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ صلىاللهعليهوسلم فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف ، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه ، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ،) أي : المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره ، وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى : (إِنَّهُ حَكِيمٌ ،) أي : باهر الحكمة متقن في أفعاله (عَلِيمٌ) وسع علمه كل شيء.
ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) قال الرازي والمفسرون : أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليهالسلام. ونقل في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه ، وقيل : من النسيان لأنه عهد إليه فنسى. (مِنْ صَلْصالٍ ،) أي : من الطين الشديد اليابس الذي لم تصبه نار ، إذا نقرته سمعت له صلصلة ، أي : صوتا. وقال ابن عباس : هو الطين إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد : هو الطين المنتن واختاره الكسائي وقال الفراء : هو طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره. وقال الرازي : قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم من طين فصوّره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالا لا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. (مِنْ حَمَإٍ ،) أي : طين أسود منتن (مَسْنُونٍ ،) أي : مصوّر بصورة الآدمي. وقال ابن عباس : هو التراب المبتل المنتن. وقال مجاهد : هو المنتن المتغير. قال البغوي : وفي بعض الآثار إنّ الله تعالى خمّر طينة آدم وتركه حتى صار متغيرا أسودا ثم خلق منه آدم عليهالسلام. قال ابن الخازن : والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكره بعضهم أنّ الله تعالى لما أراد خلق آدم عليهالسلام قبض قبضة من تراب الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران ، ٥٩] ثم إنّ ذلك التراب بله بالماء وحمأ حتى اسودّ وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله تعالى : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ثم إنّ ذلك الطين الأسود المتغير صوّره الله صورة إنسان أجوف فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فيسمع له صلصلة وإليه الإشارة بقوله تعالى : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن ، ١٤] وهو الطين اليابس يفخر في الشمس ثم نفخ فيه الروح فكان بشرا سويا.
ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر ما خلقه قبل من الجان فقال تعالى : (وَالْجَانَ) قال ابن عباس : هو أبو الجن كما أنّ آدم عليهالسلام أبو البشر وإبليس أبو الشياطين وفي الجنّ مسلمون وكافرون ويأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم ، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب : إنّ من الجنّ من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجنّ من هو بمنزلة الريح لا يتولدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. قال ابن الخازن : والأصح أنّ الشياطين نوع من الجنّ لاشتراكهم في الاستتار سموا جنا لتواريهم