إتيان النبوّة والإسلام من الفضل العظيم ويدل للأوّل قوله تعالى : (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [الإسراء ، ٨٧]. ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا : إنّ محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما أخبر الله تعالى بقوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل ، ١٠١] نزل.
نزل : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤))
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان ، أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحوّل من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ ، والثاني : بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل أي : ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا وهو المراد من الآية وهذا على وجوه :
أحدها : أن تثبت التلاوة وينسخ الحكم كآية الوصية للأقارب وآية عدّة الوفاة بالحول ، والثاني : أن ترفع التلاوة ويبقى الحكم كآية الرجم والثالث : أن يرفع الحكم والتلاوة كما روي : أنّ قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأخبروه فقال صلىاللهعليهوسلم : «تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها» (١) وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أنّ القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث ، وعدّة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ومصابرة الواحد للعشرة بمصابرته للاثنين. قال البغويّ : والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الإخبار اه.
والنسخ اصطلاحا رفع تعلق حكم شرعيّ بدليل شرعيّ ويفارق التخصيص بأنّ التخصيص لا
__________________
(١) أخرجه البغوي في شرح السنة ١ / ٩٣.