عادانا مرارا وأشدّها أنه لما نزل على نبينا أخبرنا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يجيء فيه فلما كان وقته بعثنا رجلا من بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه وكبر بختنصر وقوي فنزل (قُلْ) لهم (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.)
روي أنه كان لعمر رضي الله تعالى عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرّه على مدارس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أحبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وأرى آثاره في كتابكم ، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّ لنا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسّلام أي : السلامة ، فقال عمر : وما منزلتهما من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال : لئن كان كما تقولون فليسا بعدوّين أي : لقرب منزلتهما عند الله ولأنتم أكفر من الحمير أي : لأنّ الكفر نتيجة الجهل والبلادة والحمار مثل فيهما ، ومن كان عدوّ أحدهما فهو عدّو الله تعالى ثم رجع فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية وقال عليه الصلاة والسّلام : «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر (١).
وقال مقاتل : قالت اليهود إنّ جبريل عدوّنا ؛ لأنه أمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا ومعنى جبريل عبد الله ، فجبر هو الله وإيل هو العبد ، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ممدودة أي : بعدها ياء لفظية وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة (فَإِنَّهُ) أي : جبريل (نَزَّلَهُ) أي : القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لا يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد وقوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره حال من فاعل نزل (مُصَدِّقاً) أي : موافقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لما قبله من الكتب (وَهُدىً) من الضلالة (وَبُشْرى) بالجنة (لِلْمُؤْمِنِينَ) هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي ؛ لأنه نزل كتابا مصدّقا للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك ، وقيل : الجواب محذوف مثل فليمت غيظا أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له كما قال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) والمراد بمعاداة الله مخالفته عنادا أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيما لشأنهم كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة ، ٦٢].
فإن قيل : لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة؟ أجيب : بأنّ ذلك لفضلهما ، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّا لأحد هؤلاء ؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل ، وقدم جبريل لشرفه ، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع ؛ لأنّ عداوة
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٩.