وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسّلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي : الحيض ، وقيل : اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسّلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا فقال الله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رَسُولٌ بِما لا تَهْوى) أي : تحب (أَنْفُسُكُمُ) من الحق ، وقوله تعالى : (اسْتَكْبَرْتُمْ) أي : تكبرتم عن اتباعه ، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ (فَفَرِيقاً) أي : طائفة (كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسّلام ، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى عليهماالسلام.
فإن قيل : هلا قال : وفريقا قتلتم؟ أجيب : بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري : أو أن يراد وفريقا تقتلونهم بعد أي : الآن ، لأنكم درتم حول قتل محمد لو لا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة ، وقال صلىاللهعليهوسلم عند موته : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري» (١).
(وَقالُوا) للنبيّ صلىاللهعليهوسلم استهزاء : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أي : مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت ، ٥] ، وقيل : أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف ، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علما إلا وعته ولا تعي ما تقول أي : فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره ، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى : (بَلْ) للإضراب (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي : بسبب كفرهم ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) [محمد ، ٢٣] أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ما مزيدة لتأكيد القلة أي : إيمانهم إيمان قليل جدّا وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل : أراد بالقلة العدم.
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه (وَكانُوا) أي : اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل مجيئه (يَسْتَفْتِحُونَ) أي : يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون : اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي : اليهود (ما عَرَفُوا) من الحق وهو بعثة النبيّ صلىاللهعليهوسلم (كَفَرُوا بِهِ) حسدا أو خوفا على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية (فَلَعْنَةُ اللهِ) أي : عذابه وطرده (عَلَى الْكافِرِينَ) أي : عليهم ، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولا أوليا أو قصديا لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان
__________________
(١) أخرجه البخاري في المغازي ، تعليقا ، باب ٨٣ ، وأبو داود في الديات حديث ٤٥١٢ ، والدارمي في المقدمة حديث ٦٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٨.