أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين : أحدهما : ما يتعلق بالعبادات ، والثاني : ما يتعلق بالمعاملات.
فإن قيل : ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟ أجيب : بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل ، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها ، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تنبيها على أن البشارة في قوله تعالى : (فَاسْتَبْشِرُوا) لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) فقال سعيد بن المسيب عن أبيه إنه نزل في شأن أبي طالب وذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم جاء لعمه أبي طالب لما حضرته الوفاة فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية : فقال : «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل صلىاللهعليهوسلم يعرضها عليه ويعودان عليه إلى تلك المقالة حتى قال أبو طالب : آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال صلىاللهعليهوسلم : «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك» (١) فنزل ذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمه : «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» (٢) قال : لولا يعيرني قريش يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص ، ٥٦] الآية.
وقال بريدة لما قدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له يستغفر لها فنزل (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية ، وقال أبو هريرة : زار النبيّ صلىاللهعليهوسلم قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله وقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت (٣) ، وقال قتادة : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» (٤) فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له : تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال : استغفر إبراهيم عليهالسلام لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية.
وروى الطبراني بسنده عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ رجالا قالوا : يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان
__________________
(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ٢٤٣.
(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٥ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١٨٨.
(٣) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ١٠٨ ، وابن ماجه حديث ١٥٧٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٤١.
(٤) أخرجه البغوي في شرح السنة ٣ / ١٥٥ ، والطبري في تفسيره ١١ / ٣٢.