«إنّ رحمتي سبقت غضبي» (١) وفي رواية «غلبت غضبي» وأمّا في الآخرة فقال تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وخصها بالذكر لنفعها المتعدّي ولأنها كانت أشق عليهم ، قال قتادة : لما نزل (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس : أنا من ذلك الشيء فقال تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ولا يكفرون بشيء منها فأيس إبليس منها وتمناها اليهود والنصارى وقالوا : نحن نتقي ونؤمن بآيات ربنا فأخرجهما الله تعالى بقوله :
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) وإنما سماه رسولا بإضافته إلى الله عزوجل لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه لرسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ونبيا لأنه رفيع الدرجة عند الله ثم وصفه بالأميّ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وهي صفة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم قال صلىاللهعليهوسلم : «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» (٢) والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون أي : الخط والنبيّ صلىاللهعليهوسلم كان كذلك ، قال أهل التحقيق : وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنه عليه الصلاة والسّلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسّلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى ، ٦].
الثاني : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهما في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت ، ٤٨].
الثالث : تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلىاللهعليهوسلم وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك أتبعه :
(الَّذِي يَجِدُونَهُ) أي : علماء بني إسرائيل (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم له وخوفا على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٢ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٨٩.
(٢) أخرجه البخاري في الصوم حديث ١٩١٣ ، ومسلم في الصيام حديث ١٠٨٠ ، وأبو داود في الصوم حديث ٢٣١٩ ، والنسائي في الصيام حديث ٢١٤٠.