(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي : صمّموا عليه بأن لم يفيئوا فليوقعوه ، (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولهم (عَلِيمٌ) بعزمهم أي : ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق ، ففيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها ؛ لأنه شرط فيه العزم وقال : فإنّ الله سميع فدل على أنه يقتضي مسموعا.
والقول : هو الذي يسمع وقال بعض العلماء : إذا مضت أربعة أشهر يقع عليه طلقة بائنة ، وهو قول ابن عباس وأصحاب الرأي ، وقال سعيد بن المسيب والزهري : يقع عليه طلقة واحدة رجعية ، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا ، بل حالفا ، إذا وطئها قبل مضي تلك المدّة وجبت عليه كفارة يمين إن كان الحلف بالله ، ولا يختص الإيلاء بالحلف بالله تعالى ، فلو قال لزوجته : إن وطئتك فعبدي حر ، أو ضرّتك طالق ، أو لله عليّ عتق رقبة أو صوم أو صلاة ، فهو مول ، لأنّ المولى من يلزمه أمر يمتنع بسببه من الوطء.
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ينتظرن (بِأَنْفُسِهِنَ) عن النكاح (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وضمها ، وهو يطلق للحيض لقوله عليه الصلاة والسّلام كما رواه أبو داود وغيره : «دعي الصلاة أيام أقرائك» (١) ، وللطهر الفاصل بين حيضتين وهو المراد في الآية ؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض ، كما قال به بعض العلماء ، لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : وقت عدّتهنّ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض ، وأمّا ما رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما من قوله صلىاللهعليهوسلم : «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» (٢) فلا يقاوم ما رواه البخاريّ في قصة ابن عمر «مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» (٣) أي : بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.)
فإن قيل : ما معنى ذكر الأنفس فهلّا قيل : يتربصن ثلاثة قروء؟ أجيب : بأنّ في ذكر الأنفس تهييجا لهنّ على التربص ، وزيادة بعث ؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنّ على أن يتربصن ، وذلك أنّ نفس النساء طوامح أي : نواظر إلى الرجال ، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ ويغلبنها على الطموح ، ويجبرنها على التربص ، وكان القياس في جمع قرء أن يذكر بصيغة القلة ، التي هي الأقراء ، ولكنهم يتوسعون في ذلك ، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ، ألا ترى إلى قوله : بأنفسهنّ وما هي إلا نفوس كثيرة.
قال البيضاويّ : ولعلّ الحكم لما عمّ المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة ، فحسن بناء الكثرة ووجوب ذلك في المدخول بهنّ ، أمّا غيرهنّ فلا عدّة لهنّ لقوله تعالى : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب ، ٤٩] وفي غير الآيسة والصغيرة فعدّتهنّ
__________________
(١) أخرجه مسلم في الحيض حديث ٣٣٥ ، وأبو داود في الطهارة حديث ٢٨١ ، والترمذي في الطهارة حديث ١٢٦ ، وابن ماجه في الطهارة حديث ٦٢٥ ، والدارمي في الطهارة حديث ٧٨٨.
(٢) أخرجه أبو داود في الطلاق حديث ٢١٨٩ ، والترمذي في الطلاق حديث ١١٨٢ ، وابن ماجه في الطلاق حديث ٢٠٧٩.
(٣) أخرجه البخاري في الطلاق حديث ٥٢٥٢ ، ومسلم في الطلاق حديث ١٤٧١ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٣٨٩.