ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أي : الإسلام وقوله تعالى : (كَافَّةً) حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، كما قال القائل (١) :
أبا خراشة أما أنت ذا نفر |
|
فإن قومي لم تأكلهم الضبع |
في السلم تأخذ منا ما رضيت به |
|
والحرب تكفيك من أنفاسها جزع |
أي : ادخلوا في جميع شرائعه ، وذلك أنهم يعظمون السبت ، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا ، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه.
(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ) أي : طرق (الشَّيْطانِ ،) أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي : السّلم بفتح السين ، والباقون بكسرها ، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر ، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أي : ملتم عن الدخول في جميعه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي : الحجج الظاهرة أنه حق (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم (حَكِيمٌ) في صنعه.
تنبيه : قول البيضاوي : حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري ، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون : لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي ، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعا ؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئا قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل ؛ لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام في معنى النفي أي : ما ينظرون (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي : أمره أو بأسه كقوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل ، ٣٣] أي : عذابه وقوله تعالى :
(جاءَهُمْ بَأْسُنا) [الأنعام ، ٤٣] أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)
(فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة وهي ما أظلك (مِنَ الْغَمامِ) أي : من السحاب الأبيض سمي غماما لأنه يغم أي : يستر ، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع ؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب ، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير.
(وَ) تأتيهم (الْمَلائِكَةُ) فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ : والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى ، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن سمات الحوادث وعلى ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة انتهى.
وأما أئمة الخلف فإنهم يؤوّلون هذه الآية بنحو ما أوّلنا به وأمثالها ، بحسب المقام وهو أحكم ، ومذهب السلف أسلم ، وكان مكحول ومالك والليث وأحمد يقولون في هذا وأمثاله : أمروها كما جاءت بلا كيف.
__________________
(١) البيتان من البسيط ، وهما للعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٢٨.