عُدْوانَ) أي : اعتداء بقتل أو غيره (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : فلا تعتدوا على المنتهين ؛ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم والفاء الأولى للتعظيم والثانية للجزاء وسمي جزاء الظالمين عدوانا للمشاكلة كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.)
(الشَّهْرُ الْحَرامُ) أي : المحرم مقابل (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) وذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما خرج معتمرا في ذي القعدة سنة ست ، وصدّه المشركون عن البيت بالحديبية ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع واستعظم المسلمون قتالهم في الشهر الحرام نزلت هذه الآية ، أي : هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) احتجاج عليه أي : كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص ، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام ، أي : فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم ، أي : كما قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ، ٤٠].
(وَاتَّقُوا اللهَ) في الانتصار لأنفسكم منهم ، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : طاعته سواء الجهاد وغيره (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أي : بأنفسكم ، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ، ٣٠] أي : بما كسبتم والباء زائدة (إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي : الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها ، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله ، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.
روي أنّ رجلا من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنصرناه ، وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا ، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية ، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (١) وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى ، قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول : قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف ، ٨٧] (وَأَحْسِنُوا) أي : بالنفقة وغيرها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي : يثيبهم.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي : أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذ دليل على وجوبهما ،
__________________
(١) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٩١٠ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٥٠٢ ، والنسائي في الجهاد حديث ٣٠٩٧.