إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال : «يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا» (١) معارض بما روي أن رجلا قال لعمر رضي الله تعالى عنه : إني وجدت أي : علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا ، فقال : هديت لسنة نبيك ، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله : أهللت بهما ؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان ، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل : إن تفرد لكل واحد منهما سفرا ، وقيل : أن تكون النفقة حلالا وقيل : أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي : منعتم عن إتمامهما يقال : حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال تعالى (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة ، ٢٧٣] وقال القائل (٢) :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت |
|
عليك ولا إن أحصرتك شغول |
لكن الأشهر : أن يقال في العدوّ وحصره وفي المرض أحصره ، والمراد هنا حصر العدوّ لقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولنزول الآية في الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدوّ ، أما ما روي عنه عليه الصلاة والسّلام : «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» (٣) فمحمول على من شرطه ؛ لقوله عليه الصلاة والسّلام لضباعة بنت الزبير : «حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني» (٤) ومحلي بكسر الحاء : محل الحبس والحصر ويجوز أن يكون مصدر اسميا.
(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي : فإن أردتم التحلل فعليكم ما استيسر أو فالجواب ، أو فاهدوا ما استيسر من الهدي ، وهو بدنة أو بقرة أو سبع من أحدهما أو شاة يذبحها ، حيث أحصر في حل أو حرم عند الأكثر ؛ لأنه عليه الصلاة والسّلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وقيل : لا بدّ أن يبعث بها إلى الحرم لقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة ، ١٩٦] أي : لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي : مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ، وحمل الأوّلون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما ، لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجا من خلاف أبي حنيفة واقتصاره تعالى على الهدي دليل عدم القضاء كما قاله الشافعيّ ، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب القضاء ، ولا بدّ من نيّة التحلل عند الذبح أو الحلق أو التقصير بعده مع نية التحلل ، وبذلك يحصل التحلل والمحل بالكسر يطلق للمكان والزمان.
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي : مرضا يحوجه إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كقمل وصداع فحلق في الإحرام (فَفِدْيَةٌ) أي : فعليه فدية إن حلق ولو بعض شعر رأسه ، ثلاث شعرات
__________________
(١) أخرجه الدارقطني في سننه ٢ / ٢٨٦.
(٢) البيت من الطويل ، وهو لابن ميادة في ديوانه ص ١٨٧ ، ولسان العرب (نجح) ، (حصر) ، (شغل) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٧٢ ، ومجمل اللغة ٢ / ٧٥ ، وتهذيب اللغة ٤ / ١٥٩ ، وبلا نسبة في المخصص ١٢ / ٩٦ ، وتاج العروس (شغل).
(٣) أخرجه أبو داود حديث ١٨٦٢ ، والترمذي حديث ١٩٤٠.
(٤) أخرجه البخاري في النكاح باب ١٥ ، والحج باب ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٦ ، ١٠٨ ، وأبو داود في المناسك باب ٢٢ ، والنسائي في الحج باب ٦٠ ، وابن ماجه في المناسك ، باب ٢٤.