لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل» (١) أجيب : بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم قفاه ؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته ، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر.
فإن قيل : كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد؟ أجيب : بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ، واكتفى أوّلا باشتهارهما في ذلك ، ثم صرح بالبيان لمّا التبس على بعضهم. (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) من الفجر (إِلَى اللَّيْلِ) أي : إلى دخوله بغروب الشمس ، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» (٢) أي : دخل وقت إفطاره.
تنبيه : إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ ولأنّ إلى تكون المغيا بها ينقضي شيئا فشيئا ، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط ، وهو ينقضي كذلك ، وفي الآية دليل على نفي الوصال ؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه ، وما بعدها يخالف ما قبلها. (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي : نساءكم (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) أي : مقيمون (فِي الْمَساجِدِ) بنية الاعتكاف ، والمراد بالمباشرة الوطء ، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد ، فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم ، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد ، وأن يكون في المسجد لا في غيره ؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطا في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها ، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضا منها فيها ، فتعين كونها شرطا لصحة الاعتكاف ، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده ؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد ، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام ، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل ، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» (٣)(تِلْكَ) الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى : (فَالْآنَ» بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله تعالى : (فِي الْمَساجِدِ حُدُودُ اللهِ) حدها لعذابه ليقفوا عندها (فَلا تَقْرَبُوها) نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل ؛ لئلا يداني الباطل فضلا أن يتخطى عنه ، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة ، ٢٢٩] ، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها ، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له ؛ ليصح النهي عن قربانها ،
__________________
(١) انظر الحاشية السابقة.
(٢) أخرجه البخاري في الصوم حديث ١٩٥٤ ، ومسلم في الصيام حديث ١١٠٠ ، وأبو داود في الصوم حديث ٢٣٥١.
(٣) أخرجه مسلم في الحيض حديث ٢٩٧ ، وأبو داود في الصوم حديث ٢٤٦٧ ، والترمذي في الصوم حديث ٨٠٤.