ما أَلْفَيْنا) أي : وجدنا وأدركنا أو علمنا ، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله (عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ، فإنهم كانوا خيرا وأعلم منا قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ) أي : أيتبعونهم ولو كان (آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) أي : من أمر الدين لا شيئا مطلقا ، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا ، فلفظه عام ومعناه الخصوص (وَلا يَهْتَدُونَ) أي : الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
(وَمَثَلُ) أي : صفة (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومن يدعوهم إلى الهدى (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي : صوتا ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال : نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل (١) :
فانعق بضأنك يا جرير فإنما |
|
منتك نفسك في الخلاء ضلالا |
وأمّا نفق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل : معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء ، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر ، ١٤] ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال : (صُمٌ) أي : هم صم عن سماع الحق ، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم (بُكْمٌ) عن الخير لا يقولونه (عُمْيٌ) عن الهدى لا يبصرونه (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الموعظة لإضلال نظرهم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي : حلالات (ما رَزَقْناكُمْ.)
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون ، ٥١] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ») ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟» (٢). ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة ، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما رزقكم وأحل لكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي : إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم ، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو يعدم عند عدمه. روى البيهقيّ وغيره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» (٣).
ثم بيّن سبحانه وتعالى المحرّمات بقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي : أكلها إذ الكلام فيه
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان الأخطل ص ٢٥٣ ، ولسان العرب (نعق) ، وتاج العروس (نعق) ، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢١٦.
(٢) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠١٥ ، والترمذي في التفسير حديث ٢٩٨٩ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٧١٧.
(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١١٦ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ٥ / ١٨٩.