مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))
(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) فقال البيضاويّ : نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي : لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية ، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ، ٨٧] وأمّا هذه الآية ، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيا أيها الناس وثم بيا أيها الذين آمنوا.
تنبيه : حلالا مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى : (طَيِّباً) إمّا صفة مؤكدة وإما طاهرا من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال «الكشاف» : ومن للتبعيض ؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالا حالا ، فإن جعلنا مفعولا فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني ؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي : كلوا بعض ما في الأرض (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقنبل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي : بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة ، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم ، ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله :
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي : القبيح شرعا (وَالْفَحْشاءِ) أي : ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه ، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السديّ : الفحشاء هي الزنا وقيل : البخل.
قال البيضاوي : واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا : ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره ؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه (وَ) يأمركم أيضا (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ما ذا يجيبون وقيل : مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال : دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية (قالُوا) لا نتبعه (بَلْ نَتَّبِعُ