الصلاة والسّلام : اعرف نفسك واعرفني فقال : يا رب كيف أعرف نفسي وأعرفك؟ فأوحى الله تعالى إليه : اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوّة والبقاء ، وهذا معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) أي : اخترناه (فِي الدُّنْيا) بالرسالة والخلة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين لهم الدرجات العلا وفي هذا حجة وبيان لخطأ من رغب عن ملته ؛ لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين وكان مشهودا له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.
تنبيه : قال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) إمّا ظرف لاصطفيناه أي : اخترناه في ذلك الوقت ، وإمّا منصوب بإضمار اذكر كأنه قال : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه فكأنه قال له كما قال عطاء : أسلم نفسك إلى الله عزوجل وفوّض أمرك إليه قال : أسلمت أي : فوّضت ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
(وَوَصَّى بِها) أي : بالملة المتقدّم ذكرها أو بأسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل : بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله ، وقرأ نافع وابن عامر وأوصى بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين ، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما وهذا أبلغ قال الزجاج : لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة ، ووصى لا يكون إلا لمرّات كثيرة ، وأمال ورش بين بين ، وحمزة والكسائي محضة ، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى : (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) قال مقاتل : وهم أربعة : إسمعيل وإسحق ومدين ومدان ، وقد ذكر غير مقاتل أنهم ثمانية وقيل : أربعة عشر (وَ) وصى بها أيضا (يَعْقُوبُ) بنيه وهم اثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوا ويهوذا ويشنيوخور وزبويلون وودّان ويفتوني وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف وسمي بذلك ؛ لأنه والعيص كانا توءمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب عقبه ، وقوله تعالى : (يا بَنِيَ) على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصّى عند الكوفيين (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي : دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت ، وعن الفضيل بن عياض أنه قال : إلا وأنتم مسلمون أي : محسنون بربكم الظن لما روى جابر رضي الله عنه أنه قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : «لا يموتنّ أحد إلا وهو يحسن الظن بربه» (١).
ولما قالت اليهود للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) جمع شهيد بمعنى الحاضر أي : ما كنتم حاضرين وقول الأسيوطي : لم أقف على ذلك فيه ما مرّ (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي : حين احتضر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٧٧ ، وأبو داود في الجنائز حديث ٣١١٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٦٧.