ومنّ بذلك على
عباده بقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ) : جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة ، فبصرت بها عيون
الازال والاباد ، وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ، فنظرت به شمائل أخلاق
الجمال والجلال ، فالأرواح فنيت بصولة الذات في عين الذات ، والقلوب بقيت المشاهدة
الصفات في عين الصفات ، فشمس الذات غير محجوبة في جميع الأوقات عن بصائر الأرواح ؛
لذلك عاينتها ؛ ولا غابت عنها ؛ لأنها مقام التوحيد والمعرفة ، إن الشمس النهار
تغرب بالليل ، وشمس القلوب ليست تغيب ، وقمر الصفات يبدو للقلوب في أوقات بسطها ،
ويخفى في أوقات قبضها ، ولذلك صارت القلوب في التقلب في أنوار الصفات ، فكما خفي
القمر في شعاع الشمس ويزيد وينقص كذلك حالات القلوب في خفايا الصفات وظهورها ،
فلقمر الصفات في قلوب المحبين منازل من المداناة ؛ لظهور المواجيد والحالات ،
ولبيان أعداد الأنفاس التي لا ينبغي لها أن تجري إلا باجتماع همم المعرفة ، وصفاء
المحبة والإحاطة بأوقات الواردات العينية ، وهذا معنى إشارة قوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) .
قال بعضهم :
الشموس مختلفة ؛ فشمس المعرفة يظهر ضياؤها على الجوارح ، فتزينها باداب الخدمة ،
وأقمار الأنس تقدس الأسرار بنور الوحدانية والفردانية ، فتدخلها في مقامات التوحيد
والتفريد.
وقال بعضهم :
جعل الله شمس التوفيق ضياء الطاعات للعباد ، وقمر التوحيد نورا في أسرارهم ، فهم
ينقلبون في ضياء التوفيق ، ونور التوحيد إلى منازل الصديقين ، ثم زاد سبحانه ذكر
أعلام شواهد ملكوته ، وأنوار جبروته للمؤمنين بقوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَّقُونَ) ، جعل الليل مأوى أنس العارفين ، وجعل النهار مواضع
نزهة الصديقين ، أظهر في لباس الليل أنوار العظمة ، وأبرز من مرآة النهار أنوار
مشاهدة الجمال والجلال ، وجميع ما خلق من العرش إلى الثرى مرائي لطغيانه ، تبرز
منها لأهل الهيبة والوجل أنوار صفاته ، ليله قبض قلوب العارفين ، ونهاره بسط فؤاد
المحبين ، وما بينهما بين سماء الأرواح وأرض القلوب أشكال الأحوال من المكاشفات ،
ولا يراها إلا المتقي عما دونه من الحدثان.
__________________