ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) : وصف الله زمرة أهل المراقبات ، ومجالس المحاضرات ، والهائمين في المشاهدات ، والمستغرقين في بحار الأزليات الذين أنحلوا جسومهم بالمجاهدات ، وأمرضوا نفوسهم بالرياضات ، وأذابوا قلوبهم بدوام الذكر وجولانها في الفكر ، وخرجوا بعقائدهم الصافية عن الدنيا الفانية بمشاهدته الباقية ، بأن رفع عنهم بفضله حرج الامتحان ، وأبقاهم في مجالس الأنس ، ورياض الإيقان.
وقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) يعني : الذين أضعفهم حمل أوقار المحبّة.
(وَلا عَلَى الْمَرْضى) : الذين أمرضهم مرارة الصبابات.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) : الذين يتجرّدون عن الأكوان بتجريد التوحيد ، وحقائق التفريد.
(حَرَجٍ) : عتاب من جهة العبودية والمجاهدة ؛ لأنّهم مقتولون بسيف المحبّة ، مطروحون بباب الوصلة ، ضعفهم من الشوق ، ومرضهم من الحبّ ، وفقرهم من حسن الرضا ، ثمّ زاد في وصفهم بالشفقة على دين الله ، وعلى سنّة رسوله ، بقوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ). إذا عرفوا عباد الله طريق الله ، والأسوة بسنّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثمّ وصفهم بترائي قلوبهم هلال جلاله بنعت بذل أرواحهم ونفوسهم لله في الخلوات ، وبيّن أنهم فائزون من نكايات المكر والامتحان ، وجميع البليّات والعقوبات ، بقوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي : ما على المشاهدين جلاله وجماله سبيل الحجاب ، وقارعة العتاب ؛ لأنّه كان في الأزل اختارهم برحمته السابقة ، وغفر في القدم تقصيرهم في المعرفة ، بأنّه علم أن الخلق يعجزون عن حمل بوادي عظمته ، وأوائل كشف سلطان كبريائه ، قال الله سبحانه : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال بعضهم في قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) : من لم يكن من القدرة ، فقد رفع عنه الحرج.
قال ابن طاهر : لو لم يكن في الفقر والقلّة إسقاط الحرج عن صاحبه ، لكان ذلك عظيما.
قال الله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ).
وقال القاسم : في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) : من يرى الإحسان كلّه من الله ، فلا يكون لأحد عليه سبيل ، وقد وقع لي في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي : ما على من أصفاه الله في سابق إحسانه عليه تغيير الاصطفائية قطّ ، وإحسانه لله