كأنه في سفر الأزل والأبد ، ولو أعيي مركبه للبث بلجة عن سير ألف عام ، وغيره ليس يساويه في مقام العبودية والمجاهدة ، فهو أولى ، وهذا كلام ليس من قبيل السخاء والبخل ، وليس من سجية الأنبياء والصدّيقين ؛ فإن مذهبهم الإيثار والبذل ، وما أشرنا إليه حقيقة حكمة المعرفة.
ألا ترى إلى قوله سبحانه كيف أدّب حبيبه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً) نفسك بالندم محسورا منقطعا عن السير في عالمك.
وفيه إشارة أخرى ، أي : لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك بألا تنشر عند السالكين فضائل المعرفة وحقائق القربة ، ولا تبسطها بأن تذكر شيئا لا يحتملون فيهلكون.
قال أبو سعيد القرشي : أراد الله عزوجل من نبيه صلىاللهعليهوسلم بهذه الأمة ألا يكون قائما بشرف البسط والسخاء ، ولا قائما بنقض المنع والإمساك ، وأن يكون قائما به في جميع الأحوال.
قال بعضهم : لا تبخل بما ليس لك ، ولا تمن بالعطاء ، فإنّ الملك لنا على الحقيقة ، وأنت القاسم تقسم فيهم حقوقهم ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الله يعطي وأنا قاسم» (١).
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))
قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) : العهد عهد الأزل وقع بين كينونة الأرواح في عالم الأفراح ، قبل كون الأشباح بينهما ، وبين الحق العهد صدر من الحق
__________________
(١) رواه الطبراني في «الأوسط» (٦ / ٢١٦) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ١٤).