قال طاهر المقدسيّ : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) : فإنّهم في دار الخدمة ، وليس من أوصاف الخدم الضحك الكثير.
(وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) : فإنّهم في ميادين الحزن والغمّ ، ولذلك اختار سبحانه وتعالى تقليل الضحك ، والضحك إذا كان من غيبة الأنس ، ووضوح صبح نور الجمال ، فالضحك والبكاء هناك واحد.
و «البكاء الكثير» : ما يكون قبل المشاهدة في الشوق ، وبعد كشف المشاهدة من الفرح ، والأنس بالوصال ، فهذا البكاء هو بكاء المريدين ، وذلك من الأشجان والأحزان ، والمحبّين من الفوت والفراق.
وصف الله حال الأولين بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣] : وذلك بديهة الغيب عند ظهورها من الغيب ، فيفرح لصورتها ويجهل بحقائقها ، وهو معذور ما دام مغلوبا ، لذلك نهي النبي صلىاللهعليهوسلم الضحك من غير مجب ، وما يجوز للمقتضين من ركوب التوحيد ، وأحزان المحبّة ، أن يكون ضحكهم ترفيه فؤادهم من برحاء الحزن ، لا يجوز أكثر من ذلك.
قال في قوله تعالى : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) (١) : عين فاضت دمعها بأخبار ، وعين فاضت دمعها على قلّة الوقار ، وعين فاضت دمعها على الإخلاص والصفاء.
قال الحريري : العيون الباكية على ضروب : فعين تبكي عبادة ورسما ، وعين تبكي خشية وحزنا ، وعين تبكي هيبة ووجلا ، وعين تبكي خصوصيّة وحقيقة.
ثمّ مدح الله رسوله وأصحابه بعد ذمّه المنافقين ، بقوله : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ).
جاهد الرسول صلىاللهعليهوسلم باحتمال أثقال أمانة الرسالة ، وأدائها بغير حظوظ البشرية ، وجاهد العارفون ، بإفناء وجودهم لمشاهدة الله ، ونيل وصاله ، ثمّ وصف المؤمنين بالمعيّة معه بالأرواح في مشارب بحار المشاهدة ، وسواقي الرسالة ، فالولاية حين أشهدها الله مشاهدته في أبد الأزل حين عرّف نفسه لهم ، بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢].
ولولا تلك المعيّة والتعريف ، لما وافقوا في بذل مهجهم معه في معارك مشهد العشّاق
__________________
(١) أي : تملأ بالدمع فاستعير له الفيض الذي هو الانصباب من الامتلاء مبالغة ، ومن الدمع متعلق بتفيض ومن لابتداء الغاية ، والمعنى تفيض من كثرة الدمع والرؤية بصرية وتفيض حال من المفعول. تفسير حقي (٣ / ٣١٧).