ولما سبقت الاصطفائية له قبل وقوع المعاملات ، سبق منه العفو له قبل الزلّات. كان عليهالسلام من عظمته في المعرفة إذا جرى عليه حكم له موقع العتاب ، خاطبه الله قبله بعفو وتلطف حتى لا يفني وجوده في رؤية جلاله وهيبته من حدة الحياء والاحتشام ، ولا يكون إلا لمن كان معرفته كاملة ، ألا ترى إلى قوله عليهالسلام : «أنا أعرفكم بالله وأخوفكم منه» (١).
قيل : إن الله إذا عاتب أنبياءه وأولياءه ، عاتبهم ببر قبلها ، أو بعدها ألا تراه يقول : (عَفَا اللهُ عَنْكَ).
وقال الحسين بن منصور ـ قدّس الله روحه ـ : الأنبياء مبسوطون على مقاديرهم واختلاف مقاماتهم ، وكل يطيع حظه باستعمال الأدب بين يدي الحق ، وكل أدّب على ترك الاستعمال ، فمنهم من أنس قبل التأديب ، ومنهم من أنس بعد التأديب ، على اختلاف مقاماتهم ، فأما محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإنه أنس قبل التأديب ، إذ لو أنس بعد التأديب لتفطّر لقربه من الحق ، وذلك أن الحق تعالى أمره بقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور : ٦٢] ، ثم قال مؤدّبا له على ذلك (عَفَا اللهُ عَنْكَ) لذاب ، وهذا غاية القرب.
وقال تعالى حاكيا عن نوح عليهالسلام : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) [هود : ٤٥] ، مؤدّبا له ، وأنسه بعد التأديب (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] إلى قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).
ولو لم يؤنسه بعد التأديب لتفطّر ، وهذا مقام نوح عليهالسلام ، وليس المفضول بمقصّر ، إذ كل منهم له رتبة من الحق ، ولي نكتة من عجيب الخطاب أن لفظ المسامحة والأنس ، جرى على فعل الماضي لا على فعل المستقبل ، وكلامه تعالى أزلي أي : عفا الله عنك في الأزل ، قبل وجود العمل ففرح فؤاده بعفوه السابق له ، ثم استعمل الانبساط معه بموضع الاستفهام من الأمر ، بوصف الاستئناس والبسط ، ولو قال : إن الله يعفو عنك ، لكان مستوحشا في موقع الخطاب ؛ لأن المرجو ليس كالمدرك.
(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا
__________________
(١) ذكره الحسيني في البيان والتعريف (ص ٢٩٤).