وقوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (١) وجعل بكرمه ورحمته منها شهور القربات ، وزيادة للمدانات ، ومناسكا للعبادات ، وشرّفها لكشف المشاهدات ، ومنعهم فيها عن التمتّع والتنعّم ، وأمرهم فيها بالتعطّف ، وأمهل فيها الخارجين من السنّة ؛ لتأهّبهم أهبّة الأولية والأبرار إلى جوار الرحمة ، وما سواهما من الأيّام والشهور ، رفاهية لأهل الأنس ، ومطايبة لأهل البسط ، وكذلك تلك الحرمات على أهل القربات ، وقال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) إلى الطريق المستقيم إلى الله ، وشهادة وصال الله ، وكشف مشاهدة الله ، وحذّرهم فيها عن مخالفة الله ، بقوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ، بمنعها عن المجاهدات ، وطلب المشاهدات ، وإعطائكم حظها من الشهوات.
قال بعضهم : ظلم نفسه من أطلق عناقها في طرق الأماني من اتّباع الشهوات ، وارتكاب السيئات ، والتخطّي إلى المحارم.
من نفوسهم من المخاييل الشيطانية التي هيجتهم إلى الاستبداد بارائهم الفاسدة في استبداعهم طهي الباطل ، وهم رأوها من أنفسهم مستحسنة ، من قلة عرفانهم بطريق السنة الإلهية.
قال الواسطي : خيرهم على ما فيه هلاكهم ، ولم يعذبهم ، بقوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).
وسئل جعفر الصادق عن قوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).
قال : هو الرياء ، ثم حث المؤمنين بترك الدنيا ولذّتها ؛ لأجل مشاهدته ، وحسن رضاه بقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي : اخترتم موضع الكرامات ، وظهور الايات عن كشف المشاهدات.
قال يحيى بن معاذ : الناس من مخافة النصيحة في الدنيا وقعوا في فضحية الاخرة.
قال الله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) ، ثم وصف الدنيا بالقلة والدناءة ، ووصف الاخرة بالشرف والمنزلة ، بقوله :
(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي : ما وجد العارف الصادق في الدنيا من القربة والمعرفة ، والوجه والحالة والفضل والكرامة في جنب ما تجده من الحضرة بعد
__________________
(١) لمّا علم أنهم لا يداومون على ملازمة القرب أفرد بعض الشهور بالتفضيل ، ليخصّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمّا الخواص من عباده فجميع الشهور لهم شعبان ورمضان ، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة ، وجميع البقاع لهم مسجد ، تفسير القشيري (٣ / ٩٥).