إلى الذي فرّ منه (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي : والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلا عن القرآن ، وعن الموعظة ، أو كلمة الشهادة أو مجموع ذلك ، بعد إذ جاءني ، وتمكنت منه ، وقدرت عليه (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) الخذل : ترك الإغاثة ، ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه ، ثم يتركهم عند استغاثتهم به ، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، أو من تمام كلام الظالم ، وأنه سمى خليله شيطانا بعد أن جعله مضلا ، أو أراد بالشيطان إبليس ، لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) معطوف على (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) والمعنى : إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم ، وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجورا ، متروكا لم يؤمنوا به ، ولا قبلوه بوجه من الوجوه ، وقيل : هو من هجر إذا هذى. والمعنى : أنهم اتخذوه هجرا وهذيانا. وقيل : معنى مهجورا : مهجورا فيه ، ثم حذف الجار ، وهجرهم فيه قولهم : إنه سحر ، وشعر ، وأساطير الأوّلين ، وهذا القول يقوله الرسول صلىاللهعليهوسلم يوم القيامة ؛ وقيل : إنه حكاية لقوله صلىاللهعليهوسلم في الدنيا (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) هذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : أن الله سبحانه جعل لكلّ نبيّ من الأنبياء الداعين إلى الله عدوّا يعاديه من مجرمي قومه ، فلا تجزع يا محمد ، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك واصبر كما صبروا (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) قال المفسرون : الباء زائدة ، أي : كفى ربك ، وانتصاب نصيرا وهاديا على الحال ، أو التمييز : أي يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا وينصرهم على الأعداء (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم ، أي : هلا نزّل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم. واختلف في قائل هذه المقالة ؛ فقيل : كفار قريش ، وقيل : اليهود ، قالوا : هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور؟ وهذا زعم باطل ودعوى داحضة فإن هذه الكتب نزلت مفرّقة كما نزل القرآن ولكنهم معاندون ، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه ، ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي : نزلنا القرآن كذلك مفرّقا ، والكاف : في محل نصب ، على أنها نعت مصدر محذوف ، وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم ، أي : مثل ذلك التنزيل المفرّق الذي قدحوا فيه ، واقترحوا خلافه نزلناه لنقوّي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك ، فإن إنزاله مفرّقا منجما على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له ، وفهمك لمعانيه ، وذلك من أعظم أسباب التثبيت ، واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدّرناه. وقال أبو حاتم : إن الأخفش قال : إنها جواب قسم محذوف. قال : وهذا قول مرجوح. وقرأ عبد الله (لِيُثَبِّتَ) بالتحتية ، أي : الله سبحانه ، وقيل : إن هذه الكلمة ، أعني كذلك ، هي من تمام كلام المشركين ، والمعنى كذلك ، أي : كالتوراة والإنجيل والزبور ، فيوقف على قوله كذلك ، ثم يبتدأ بقوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) على معنى أنزلناه عليك متفرّقا لهذا الغرض. قال ابن الأنباري : وهذا أجود وأحسن. قال النحاس : وكان ذلك ، أي : إنزال القرآن منجما من أعلام النبوّة لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبيّ ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) هذا معطوف على الفعل المقدّر ، أي :