لأنه قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) وقال هنا : (بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن يصير له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. قال الزجاج الله أعلم أيّهما الذبيح اه ، وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له.
ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١) وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) (٢) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح ، فوفى به ، ولأن الله سبحانه قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) فكيف يأمره بذبحه ، وقد وعده أن يكون نبيا ، وأيضا فإن الله قال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٣) فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب ، وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعا ببيت المقدس وكلّ هذا أيضا يحتمل المناقشة (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) قرأ حمزة والكسائي «ترى» بضم الفوقية وكسر الراء ، والمفعولان محذوفان ، أي : انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي ، وهو مضارع رأيت ، وقرأ الضحاك والأعمش ، «ترى» بضم التاء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، أي : ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى : انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره ، وإنما قال العلماء ماذا تشير؟ أي ما تريك نفسك من الرأي ، وقال أبو عبيد : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم ، وغلطهما النحاس وقال : هذا يكون من رؤية العين وغيرها ، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي ، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي : ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي ، وما : موصولة ، وقيل : مصدرية على معنى افعل أمرك ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمرا ، والأوّل أولى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على ما ابتلاني من الذبح ، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركا بها منه (فَلَمَّا أَسْلَما) أي : استسلما لأمر الله وأطاعاه وانقادا له. قرأ الجمهور (أَسْلَمْنا) وقرأ عليّ وابن مسعود وابن عباس «فلمّا سلّما» أي : فوضا أمرهما إلى الله ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ استسلما قال قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله ، وأسلم الآخر ابنه ، يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد.
وقد اختلف في جواب لما ماذا هو؟ فقيل : هو محذوف ، وتقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو فديناه بكبش هكذا قال البصريون. وقال الكوفيون : الجواب هو ناديناه ، والواو زائدة مقحمة ، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزاد ، وقال الأخفش الجواب (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) والواو زائدة ، وروي هذا أيضا عن الكوفيين. واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأوّل (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) التلّ : الصرع والدفع ، يقال تلت الرجل : إذا ألقيته ، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض ، والجبين أحد
__________________
(١). الأنبياء : ٨٥.
(٢). مريم : ٥٤.
(٣). هود : ٧١.