فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء : ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بدّ من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي : إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب ، أي : أن التكليف أمر عظيم ؛ حقه أن تعجز عنه السموات والأرض ، والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل ، وهذا كقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) (١) إن عرضنا بمعنى عارضنا ، أي : عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل : إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليهالسلام ، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها. وهذا أيضا تحريف لا تفسير ، ومعنى (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : التزم بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه ، كما قال سعيد بن جبير ، أو جهول بربه ، كما قال الحسن : وقال الزجاج : معنى حملها : خان فيها ، وجعل الآية في الكفار ، والفساق ، والعصاة ، وقيل معنى حملها : كلفها وألزمها ، أو صار مستعدّا لها بالفطرة ، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم ، واللام في (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) متعلق بحملها ، أي : حملها الإنسان ليعذّب الله العاصي ، ويثيب المطيع ، وعلى هذا فجملة (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمله. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : ليعذبهم بما خانوا من الأمانة ، وكذبوا من الرسل ، ونقضوا من الميثاق الذي أقرّوا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن وقتادة : هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها ، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدّوها. وقال ابن قتيبة : أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق ، وشرك المشرك ؛ فيعذبهما الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي : يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات ، ولذلك ذكر بلفظ التوبة ، فدلّ على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم. وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل ، والراجح ما قدّمنا عن الجمهور ، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ، ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ، ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ موسى كان رجلا حييا ستّيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما تستّر هذا السّتر إلا من عيب بجلده ، إمّا برص ، وإمّا أدرة ، وإما آفة ، وإنّ الله عزوجل أراد أن يبرئ موسى ممّا قالوا : فخلا يوما وحده ، فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلمّا فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من
__________________
(١). الحشر : ٢١.