والحرام من لا يجد نكاحا ، أي : سبب نكاح ، وهو المال. وقيل : النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة ، كاللحاف : اسم لما يلتحف به ، واللباس : اسم لما يلبس ، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية ، وهي (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي : يرزقهم رزقا يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح ، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد ، الجملة الأولى : وهي إن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا ، فإنه لو كان وعدا حتما ، لا محالة في حصوله ، لكان الغنى والزواج متلازمين ، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة ، فإنه سيغنى عند تزوّجه لا محالة ، فيكون في تزوّجه مع فقره تحصيل للغنى ، إلا أن يقال : إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح ، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح ، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها ، وأعظمها : المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء ، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الموصول في محل رفع ، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب : كالمكاتبة ، يقال : كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة ، كما يقال قاتل يقاتل قتالا ومقاتلة. وقيل : الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء ، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه ، وعلى أنفسهم بذلك كتابا ، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع : أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما ، فإذا أدّاه فهو حرّ ، وظاهر قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده ، وهو (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه ، وإن لم يكن له مال ، وقيل : هو المال فقط ، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل. وذهب إلى الأوّل ابن عمر وابن زيد ، واختاره مالك ، والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء ، وتأدية للمال. وقال الزجاج : لما قال : «فيهم» كان الأظهر الاكتساب ، والوفاء وأداء الأمانة. وقال النخعي : إن الخير : الدين والأمانة. وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة. قال الطحاوي : وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا ، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ قال : والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البرّ : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال : إن علمتم فيهم مالا ، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ، ولا يقال علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخبر المذكور في هذه الآية. وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب ، أما عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك : وأهل الظاهر ، فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه ، إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرا. وقال الجمهور من أهل العلم : لا يجب ذلك ، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه ، فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة ، والحق ما قاله الأوّلون ، وبه قال عمر بن الخطاب وابن