لأنه حال من شيء المذكور بعده ، ومن في «من شيء» مزيدة للتوكيد ، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ، ويجعلون لهم نصيبا من أموالهم (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بين سبحانه أن الشرك والمعاصي ؛ سبب لظهور الفساد في العالم.
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور ، فقيل : هو القحط ، وعدم النبات ، ونقصان الرزق ، وكثرة الخوف ، ونحو ذلك. وقال مجاهد وعكرمة : فساد البرّ : قتل ابن آدم أخاه ، يعني : قتل قابيل لهابيل ، وفي البحر : الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا.
وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب؟ فإن الآية نزلت على محمّد صلىاللهعليهوسلم ، والتعريف في الفساد : يدلّ على الجنس ، فيعم كلّ فساد واقع في حيزيّ البرّ ، والبحر ، وقال السدّي : الفساد : الشرك ، وهو أعظم الفساد. ويمكن أن يقال : إن الشرك ؛ وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي ، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه. وقيل : الفساد كساد الأسعار ، وقلة المعاش ، وقيل : الفساد قطع السبل ، والظلم ، وقيل : غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه. والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه ؛ سواء كان راجعا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم ، واقترافهم السيئات وتقاطعهم ، وتظالمهم ، وتقاتلهم ، أو راجعا إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم ، كالقحط ، وكثرة الخوف ، والموتان ، ونقصان الزرائع ، ونقصان الثمار. والبرّ والبحر : هما المعروفان المشهوران ، وقيل البرّ : الفيافي ، والبحر : القرى التي على ماء قاله عكرمة ، والعرب تسمي الأمصار : البحار. قال مجاهد : البرّ : ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر : ما كان على شط نهر ، والأوّل : أولى. ويكون معنى البرّ : مدن البرّ ، ومعنى البحر : مدن البحر ، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها ، والباء في بما كسبت : للسببية ، وما : إما موصولة ؛ أو مصدرية (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام متعلقة بظهر ، وهي لام العلة ، أي : ليذيقهم عقاب بعض عملهم ، أو جزاء بعض عملهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم فيه من المعاصي ، ويتوبون إلى الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين ، والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل ، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ، ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم ، فإن منازلهم خاوية ، وأراضيهم مقفرة موحشة ، كعاد وثمود ، ونحوهم من طوائف الكفار ، وجملة (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها ، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) هذا خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمته وأسوته فيه ، كأن المعنى : إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم ؛ فأقم وجهك يا محمّد إلخ. قال الزجاج : اجعل جهتك اتباع الدين القيم ، وهو الإسلام المستقيم «من قبل أن يأتي يوم» يعني : يوم القيامة «لا مردّ له» لا يقدر أحد على ردّه ، والمردّ : مصدر ردّ ، وقيل المعنى : أوضح الحق ، وبالغ في الأعذار ، و «من الله» يتعلق بيأتي ، أو بمحذوف يدل عليه المصدر ، أي : لا يردّه من الله أحد ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى : لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه ، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى (يَوْمَئِذٍ