وابن مردويه عن أنس قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري كله في هذه الآية ، فما أدركتها ، إن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي ارجع ، فأرجع وأنا مغتبط لقوله : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ). وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير عن ابن عباس قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ).
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))
لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان ، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم ، فيندرج تحته غضّ البصر من المستأذن ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إنما جعل الإذن من أجل البصر» وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم ، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر ، هم أحق من غيرهم بها ، وأولى بذلك ممن سواهم. وقيل : إن في الآية دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم ، وفي الكلام حذف ، والتقدير (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) غضوا (يَغُضُّوا) ومعنى غضّ البصر : إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية ، ومنه قول جرير :
فغضّ الطّرف إنّك من نمير |
|
فلا كعبا بلغت ولا كلابا |
وقول عنترة :
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي |
|
حتّى يواري جارتي مأواها |
و «من» في قوله : (مِنْ أَبْصارِهِمْ) هي : التبعيضية ، وإليه ذهب الأكثرون ، وبينوه بأن المعنى غضّ البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل. وقيل : وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أوّل نظرة تقع من غير قصد. وقال الأخفش : إنها زائدة وأنكر ذلك سيبويه. وقيل : إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء. واعترض عليه بأنه لم يتقدّم مبهم يكون مفسرا بمن ، وقيل : إنها لابتداء الغاية. قال ابن عطية : وقيل : الغضّ النقصان ، يقال : غضّ فلان من فلان : أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص فتكون «من» صلة للغضّ ، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة. وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحلّ النظر إليه ، ومعنى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم. وقيل : المراد ستر