الأصل ومأخوذ منه ، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام ، وإن : في موضع رفع بالابتداء ، ومن آياته : خبره (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) إذا : هي الفجائية ، أي : ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في الأرض ، وإذا الفجائية : وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء ، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة ، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع ، من كونه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما مكسوّا لحما ، فاجأ بالبشرية والانتشار ، ومعنى تنتشرون : تنصرفون فيما هو قوام معايشكم (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث : أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، أي : من جنسكم في البشرية ، والإنسانية ، وقيل : المراد حوّاء ، فإنه خلقها من ضلع آدم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي : تألفوها ، وتميلوا إليها ، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ، ولا يميل قلبه إليه (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي : ودادا وتراحما بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض ؛ من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة ؛ فضلا عن مودّة ورحمة. وقال مجاهد : المودّة : الجماع ، والرحمة : الولد ، وبه قال الحسن. وقال السدّي : المودّة : المحبة ، والرحمة : الشفقة. وقيل : المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة : رحمته إياها من أن يصيبها بسوء. وقوله «أن خلق لكم» : في موضع رفع على الابتداء ، ومن آياته : خبره (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور سابقا. (لَآياتٍ) عظيمة الشأن ؛ بديعة البيان ؛ واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث ، والنشور (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال ؛ لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه ، وأما الغافلون عن التفكر ؛ فما هم إلا كالأنعام (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة التي هي أجرام السموات والأرض ، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار ، وخلق فيها من عجائب الصنع ، وغرائب التكوين ما هو عبرة للمعتبرين ؛ قادر على أن يخلقكم بعد موتكم ، وينشركم من قبوركم (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي : لغاتكم : من عرب ، وعجم ، وترك ، وروم ، وغير ذلك من اللغات (وَأَلْوانِكُمْ) من البياض ، والسواد ، والحمرة ، والصفرة ، والزرقة ، والخضرة ، مع كونكم أولاد رجل واحد ، وأم واحدة ، ويجمعكم نوع واحد ، وهو : الإنسانية ، وفصل واحد ، وهو : الناطقية ، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم ، لا يلتبس هذا بهذا ، بل في كلّ فرد من أفرادكم ؛ ما يميزه عن غيره من الأفراد ، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمون ، ولا يفهمه إلا المتفكرون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) الذين هم من جنس هذا العالم ، من غير فرق بين برّ وفاجر ، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين. وقرأ حفص وحده بكسرها. قال الفراء : وله وجه جيد لأنه قد قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١) (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٢). (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ومن آياته منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار. وقيل : المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير ، أي : ومن آياته العظيمة ؛ أنكم تنامون بالليل ، وتنامون في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، فإن
__________________
(١). آل عمران : ١٩٠.
(٢). العنكبوت : ٤٣.