قوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : يخلقهم أولا ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ، كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى موقف الحساب ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وأفرد الضمير في يعيده : باعتبار لفظ الخلق ، وجمعه في ترجعون : باعتبار معناه. قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو «يرجعون» بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، والالتفات المؤذن بالمبالغة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) قرأ الجمهور «يبلس» على البناء للفاعل. وقرأ السلمي على البناء للمفعول ، يقال أبلس الرجل : إذا سكت ، وانقطعت حجته. قال الفراء والزجاج : المبلس : الساكت المنقطع في حجته ؛ الذي أيس أن يهتدي إليها ، ومنه قول العجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا |
|
قال نعم أعرفه وأبلسا (١) |
وقال الكلبي : أي يئس المشركون من كلّ خير ؛ حين عاينوا العذاب ، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٢) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي : لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله (وَكانُوا) في ذلك الوقت (بِشُرَكائِهِمْ) أي : بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء الله (كافِرِينَ) أي : جاحدين لكونهم آلهة ؛ لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، وقيل إن معنى الآية : كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم ، والأوّل أولى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي : يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) المراد بالتفرّق : أن كلّ طائفة تنفرد ، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة ، والكافرون إلى النار ، وليس المراد :
تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر ، ومثله قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٣) وذلك بعد تمام الحساب ، فلا يجتمعون أبدا. ثم بين سبحانه كيفية تفرّقهم فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال النحاس : سمعت الزجاج يقول معنى «أما» دع ما كنا فيه وخذ في غيره ، وكذا قال سيبويه : إن معناها مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه ، والروضة : كل أرض ذات نبات ، قال المفسرون : والمراد بها هاهنا : الجنة ، ومعنى يحبرون : يسرون ، والحبور والحبرة : السرور ، أي : فهم في رياض الجنة ينعمون. قال أبو عبيد : الروضة : ما كان في سفل ، فإذا كان مرتفعا : فهو ترعة. وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع ، ومنه قول الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبة |
|
خضراء جاد عليها مسبل هطل |
وقيل : معنى «يحبرون» يكرمون. قال النحاس : حكى الكسائي حبرته : أي أكرمته ونعمته ، والأولى تفسير يحبرون : بالسرور كما هو المعنى العربيّ ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم ، وفي السرور زيادة على ذلك. وقيل : التحبير التحسين فمعنى يحبرون : يحسن إليهم ، وقيل : هو السماع الذي يسمعونه
__________________
(١). المكرس : الذي قد بعّرت فيه الإبل وبوّلت ، فركب بعضه بعضا.
(٢). الأنعام : ٤٤.
(٣). الشورى : ٧.