أنفسهم. قال المبّرد ومثله قوله سبحانه (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) قال النحاس : بأنفسهم : بإخوانهم ، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. قال العلماء : إن في الآية دليلا على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي : قال المؤمنون عند سماع الإفك : هذا إفك ظاهر مكشوف ، وجملة (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) من تمام ما يقوله المؤمنون ، أي : وقالوا هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ) أي : الخائضون في الإفك (عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي : في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هذا خطاب للسامعين ، وفيه زجر عظيم (وَلَوْ لا) هذه : هي لامتناع الشيء لوجود غيره (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي : بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال : أفاض في الحديث ، واندفع وخاض. والمعنى : لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، والرحمة في الآخرة بالعفو ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم به من حديث الإفك. وقيل : المعنى : لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معا ، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) الظرف منصوب بمسكم أو بأفضتم ، قرأ الجمهور «إذ تلقونه» من التلقي ، والأصل : تتلقونه فحذف إحدى التاءين. قال مقاتل ومجاهد : المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا. قال الزجاج : معناه : يلقيه بعضكم إلى بعض. وقرأ محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف ، من الإلقاء ، ومعنى هذه القراءة واضح. وقرأ أبيّ وابن مسعود «تتلقونه» من التلقي ، وهي كقراءة الجمهور : وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى بن عمر ويحيى بن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ولق يلق ولقا : إذا كذب. قال ابن سيده : جاءوا بالمتعدّي شاهدا على غير المتعدّى. قال ابن عطية : وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف حرف الجرّ فاتصل الضمير. قال الخليل وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع ، يقال جاءت الإبل تلق ، أي : تسرع ، ومنه قول الشاعر :
لمّا رأوا جيشا عليهم قد طرق |
|
جاءوا بأسراب من الشّأم ولق |
إنّ الحصين زلق وزمّلق |
|
جاءت به عنس (٢) من الشّأم تلق |
قال أبو البقاء : أي يسرعون فيه قال ابن جرير : وهذه اللفظة أي تلقونه على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق ، وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد ، وكلام في إثر كلام ، وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من الألق وهو الكذب ، وقرأ يعقوب «تيلقونه» بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة ، وهو مضارع
__________________
(١). البقرة : ٥٤.
(٢). العنس : الناقة القوية.