لَكُمْ) أي تظهر لكم بما يجيب عليكم به النبي صلىاللهعليهوسلم أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سببا للتكاليف الشاقة وإيجاب ما لم يكن واجبا وتحريم ما لم يكن محرّما ، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال.
وقد ظنّ بعض أهل التفسير أن إن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونزول الوحي عليه ، فقال : إن الشرطية الأولى أفادت عدم جواز السؤال ، والثانية أفادت جوازه ، فقال : إن المعنى : وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبد لكم بجواب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنها ، وجعل الضمير في (عَنْها) راجعا إلى أشياء غير الأشياء المذكورة ، وجعل ذلك كقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١) وهو آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) (٢) أي ابن آدم. قوله : (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك. وقيل المعنى : إن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم ، فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم؟ وضمير (عَنْها) عائد إلى المسألة الأولى ، وإلى أشياء على الثاني على أن تكون جملة (عَفَا اللهُ عَنْها) صفة ثالثة لأشياء ، والأوّل أولى ، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه ، ويمكن أن يقال إن العفو بمعنى الترك : أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها ، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل ، ثم جاء سبحانه بصيغة المبالغة في كونه غفورا حليما ليدلّ بذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه. قوله : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من (لا تَسْئَلُوا) لكن ليست هذه المسألة بعينها ، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ، ثم لم يعملوا بها ، بل أصبحوا بها كافرين : أي ساترين لها تاركين للعمل بها ، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة ، وأصحاب عيسى المائدة ، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا ، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣) وقال صلىاللهعليهوسلم : «قاتلهم الله ألا سألوا ، فإنّما شفاء العيّ السّؤال». قوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) هذا كلام مبتدأ يتضمن الردّ على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه ، وجعل هاهنا بمعنى سمى كما قال : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). والبحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة كالنّطيحة والذّبيحة ، وهي مأخوذة من البحر ، وهو شقّ الأذن. قال ابن سيده : البحيرة هي التي خليت بلا راع ؛ قيل : هي التي يجعل درّها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس ، وجعل شق أذنها علامة لذلك. وقال الشافعي : كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرّمت ؛ وقيل : إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء ، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها ؛ وقيل : إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرّموا ركوبها ودرّها. والسائبة : الناقة تسيب ، أو البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزلة ، فلا يحبس عن رعي ولا ماء ، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد. قال الشاعر :
__________________
(١). المؤمنون : ١٢.
(٢). المؤمنون : ١٣.
(٣). النحل : ٤٣.