بالبيان ، فجزاه الله عن أمته خيرا ؛ ثم إنّ الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يظنّ أنه حامل على كتم البيان ، وهو خوف لحوق الضّرر من الناس ، وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بيّن لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام ، ثم حمل من أبي من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها وقتل صناديد الشرك وفرّق جموعهم وبدّد شملهم ، وكانت كلمة الله هي العليا ، فأسلم كلّ من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم : ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس ، إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه ، وصرخ بين ظهراني من ضادّ الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة ، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله وشدّة شكيمة في القيام بحجة الله ، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلفة وتوهمات باطلة ، فإنّ كلّ محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة ، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١) قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) جملة متضمّنة لتعليل ما سبق من العصمة ؛ أي إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلا الإضرار بك ، فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : لما نزلت (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال : يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع عليّ الناس ، فنزلت (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ). وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا ، وعرفت أن الناس مكذّبي ، فوعدني لأبلغن أو ليعذّبني ، فأنزلت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك ـ إن عليا مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس». وأخرج ابن أبي حاتم عن عنترة قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلىاللهعليهوسلم للناس ، فقال : ألم تعلم أنّ الله قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) والله ما ورّثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم سوداء في بيضاء. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل : أيّ آية أنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال : كنت بمنى أيام موسم ، فاجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم ، فأنزل عليّ جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، قال : فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلّغ رسالة ربي وله الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم ،
__________________
(١). ق : ٣٧.