وقال الفراء : ما بمعنى : من ، كقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) (١) أي : وإن كلا لمن ليوفينهم ؛ وقيل : ليست بزائدة بل هي اسم دخلت عليها لام التوكيد ، والتقدير : وإن كلا لمن خلق. قيل : وهي مركبة ، وأصلها : لمن ما ، فقلبت النون ميما واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى ، حكى ذلك النحاس عن النحويين. وزيف الزجاج هذا وقال : من اسم على حرفين فلا يجوز حذف النون. وذهب بعض النحويين إلى أن لما هذه بمعنى إلا ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٢) وقال المازني : الأصل لما المخففة ثم ثقلت. قال الزجّاج : وهذا خطأ ، إنما يخفف المثقل ولا يثقل المخفف. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : يجوز أن يكون التشديد من قولهم لممت الشيء ألمه : إذا جمعته ، ثم بنى منه فعلى كما قرئ (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (٣) وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى إلا الاستثنائية. وقد روي ذلك عن الخليل وسيبويه وجميع البصريين ورجّحه الزجّاج ويؤيده أن في حرف أبيّ وإن كلّا إلا ليوفينهم كما حكاه أبو حاتم عنه. وقرئ بالتنوين : أي جميعا. وقرأ الأعمش (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) بتخفيف إن ورفع كل وتشديد لما ، وتكون : إن على هذه القراءة نافية (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ) أيها المختلفون (خَبِيرٌ) لا يخفى عليه منه شيء ، والجملة تعليل لما قبلها ، ثم أمر سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي : كما أمرك الله ، فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه ، لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه ، كما أمره بفعل ما تعبده بفعله ، وأمته أسوته في ذلك ، ولهذا قال : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي : رجع من الكفر إلى الإسلام وشاركك في الإيمان ، وهو معطوف على الضمير في فاستقم ، لأن الفصل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقام التأكيد ، أي : وليستقم من تاب معك وما أعظم موقع هذه الآية وأشدّ أمرها ، فإن الاستقامة ـ كما أمر الله ـ لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة والذوات المقدسة ، ولهذا يقول المصطفى صلىاللهعليهوسلم «شيّبتني هود» كما تقدّم (وَلا تَطْغَوْا) الطغيان مجاوزة الحد ، لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة ؛ بين أن الغلوّ في العبادة ؛ والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حدّه ؛ والمقدار الذي قدّره ممنوع منه منهيّ عنه ، وذلك كمن يصوم ولا يفطر ، ويقوم الليل ولا ينام ، ويترك الحلال الذي أذن الله به ، ورغب فيه ، ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه «أما أنا فأصوم وأفطر ؛ وأقوم وأنام ، وأنكح النساء ؛ فمن رغب عن سنّتي فليس مني» ، والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ولأمته تغليبا لحالهم على حاله ، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يجازيكم على حسب ما تستحقون ، والجملة تعليل لما قبلها. قوله (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا). قرأ الجمهور بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرّف وقتادة وغيرهما (تَرْكَنُوا) بضم الكاف. قال الفرّاء : وهي لغة تميم وقيس ، قال أبو عمرو : وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز ، قال : ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف ، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم. وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه. قال في الصحاح : ركن إليه يركن بالضم. وحكى أبو زيد ركن إليه بالكسر يركن ركونا فيهما ، أي : مال إليه وسكن. قال الله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع
__________________
(١). النساء : ٧٢.
(٢). الطارق : ٤.
(٣). المؤمنون : ٤٤.