تعتقده في نفسك من الحلم والرشد ؛ وقيل : إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك ، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم. وقد تقدّم تفسير الحلم والرشد ، وجملة : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) مستأنفة كالجمل التي قبلها ؛ والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) أي : من فضله وخزائن ملكه (رِزْقاً حَسَناً) أي : كثيرا واسعا حلالا طيبا ، وقد كان عليهالسلام كثير المال ؛ وقيل : أراد بالرزق النبوّة ، وقيل : الحكمة ، وقيل : العلم ، وقيل : التوفيق ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه سياق الكلام ، تقديره : أترك أمركم ونهيكم ، أو أتقولون في شأني : ما تقولون مما تريدون به السّخرية والاستهزاء (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي : وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم ، يقال : خالفه إلى كذا : إذا قصده وهو مولّ عنه ، وخالفته عن كذا : في عكس ذلك (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي : ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم (مَا اسْتَطَعْتُ) ما بلغت إليه استطاعتي ، وتمكنت منه طاقتي (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) أي : ما صرت موفقا هاديا نبيا مرشدا إلا بتأييد الله سبحانه وإقداري عليه ومنحي إياه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي : أرجع في كل ما نابني من الأمور وأفوّض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره ، وقيل معناه : وإليه أرجع في الآخرة ؛ وقيل : إن الإنابة : الدعاء ، ومعناه : وله أدعو. قوله : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) قال الزجاج : معناه لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب إياكم كما أصاب من كان قبلكم ؛ وقيل معناه : لا يحملنكم شقاقي ، والشقاق : العداوة ، ومنه قول الأخطل :
ألا من مبلغ عنّي رسولا |
|
فكيف وجدتم طعم الشّقاق |
و (أَنْ يُصِيبَكُمْ) في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الصيحة ، وقد تقدّم تفسير : يجرمنكم ، وتفسير : الشقاق (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يحتمل أن يريد : ليس مكانهم ببعيد من مكانكم ، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم ، أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم ، وهو مطلق الكفر ، وأفرد لفظ بعيد لمثل ما سبق في (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة فقال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) وقد تقدّم تفسير : الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أوّل السورة ، وتقدّم تفسير : الرحيم ، والمراد هنا : أنه عظيم الرحمة للتائبين. والودود : المحبّ. قال في الصّحاح : وددت الرجل أودّه ودّا : إذا أحببته ، والودود : المحب ، والودّ والودّ والودّ : المحبة ؛ والمعنى هنا : أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودة بمن يوده من اللطف به ، وسوق الخير إليه ، ودفع الشرّ عنه. وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة. وجملة : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) مستأنفة كالجمل السّابقة ، والمعنى : أنك تأتينا بما لا عهد لنا به : من الإخبار بالأمور الغيبية كالبعث والنشور ، ولا نفقه ذلك : أي : نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة. فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازا ؛