الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة ؛ ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) والإيفاء : هو الإتمام ، والقسط : العدل ، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير ، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل ، والنهي عن النقص وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن ، ثم زاد ذلك تأكيدا فقال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قد مرّ تفسير هذا في الأعراف ، وفيه النهي عن البخس على العموم ، والأشياء أعمّ مما يكال ويوزن فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولا أوّليا ؛ وقيل : البخس المكس خاصة ، ثم قال : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) قد مرّ أيضا تفسيره في البقرة ، والعثي في الأرض : يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس ، فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان ؛ وقيده بالحال وهو قوله : (مُفْسِدِينَ) ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض ، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيرا وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس والفساد في الأرض ، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين. وقال مجاهد : بقية الله : طاعته. وقال الربيع : وصيته. وقال الفراء : مراقبته ، وإنما قيد ذلك بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر ، أو المراد بالمؤمنين هنا : المصدّقون لشعيب (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما ، أو أحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها ، وجملة : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قالوا لشعيب؟ وقرئ (أَصَلاتُكَ) من غير جمع ، وأن نترك في موضع نصب. وقال الكسائي : موضعها خفض على إضمار الباء ، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان ، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به ، لأنّ الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه ؛ وتذليل صعوبته ؛ كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب : أصدقتك أمرتك بهذا ؛ وقيل : المراد بالصلاة هنا القراءة ، وقيل : المراد بها الدين ، وقيل : المراد بالصلوات أتباعه ، ومنه المصلي الذي يتلو السابق ؛ وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده ، وقولهم : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن ، ونهيهم عن نقصهما وعن بخس الناس وعن العثي في الأرض ، وهذه الجملة معطوفة على (ما) في (ما يَعْبُدُ آباؤُنا). والمعنى : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص. وقرئ تفعل ما تشاء بالفوقية فيهما. قال النحاس : فتكون أو : على هذه القراءة للعطف على : أن ، الأولى ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء. وقرئ (نَفْعَلَ) بالنون وما تشاء بالفوقية ، ومعناه : أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التّراضي بيننا ؛ ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) على طريقة التهكم به ، لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما ، أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك وفي اعتقادك ، ومعناهم : أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما