والمعنى : أنه قلبها على هذه الهيئة ، وهي كون عاليها صار سافلها وسافلها صار عاليها ، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قيل : إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة ؛ وقيل : هما لغتان ، يقال مطرت السماء وأمطرت ، حكى ذلك الهروي ، والسّجّيل : الطين المتحجّر بطبخ أو غيره ؛ وقيل : هو الشديد الصلب من الحجارة ؛ وقيل : السّجّيل : الكثير ؛ وقيل : إنّ السجيل لفظة غير عربية ، أصله سج وجيل ، وهما بالفارسية حجر وطين عرّبتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا ؛ وقيل : هو من لغة العرب. وذكر الهروي : أن السجيل اسم لسماء الدنيا. قال ابن عطية : وهذا ضعيف يردّه وصفه بمنضود ؛ وقيل هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض ؛ وقيل هي جبال في السماء. وقال الزجاج : هو من التسجيل لهم : أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ـ كِتابٌ مَرْقُومٌ) (١) وقيل : هو من أسجلته إذا أعطيته ، فكأنه عذاب أعطوه ، ومنه قول الشاعر :
من يساجلني يساجل ما جدا |
|
يملأ الدّلو إلى عقد الكرب |
ومعنى : (مَنْضُودٍ) أنه نضد بعضه فوق بعض ، وقيل : بعضه في أثر بعض ، يقال : نضدت المتاع : إذا جعلت بعضه على بعض ، فهو منضود ونضيد ، والمسوّمة : المعلمة ، أي : التي لها علامة ، قيل : كان عليها أمثال الخواتيم ؛ وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به. وقال الفراء : زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض. فذلك تسويمها ؛ ومعنى : (عِنْدَ رَبِّكَ) في خزائنه (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي : وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد ، أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم ببعيد ، فهم لظلمهم مستحقون لها. وقيل : (وَما هِيَ) أي : قرى (مِنَ الظَّالِمِينَ) من كفر بالنبيّ (بِبَعِيدٍ) فإنها بين الشام والمدينة. وفي إمطار الحجارة قولان : أحدهما : أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. والثاني : أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها. وتذكير البعيد : على تأويل الحجارة بالحجر ، أو إجراء له على موصوف مذكر ، أي : شيء بعيد ، أو مكان بعيد ، أو لكونه مصدرا ، كالزّفير والصّهيل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) قال : ساء ظنا بقومه ، وضاق ذرعا بأضيافه (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) يقول : شديد. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال : يسرعون (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) قال : يأتون الرجال. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه أيضا قال : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) يستمعون إليه. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا في قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) قال : ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحا ولا نكاحا ، إنما قال هؤلاء نساؤكم ، لأن النبيّ إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم ، قال الله تعالى في القرآن : «وأزواجه أمّهاتهم وهو أبوهم» في قراءة أبيّ. وأخرج ابن جرير ، وابن
__________________
(١). المطففين : ٨ ـ ٩.