وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين ، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين. ثم لمّا علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع ، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه بادر إلى الاعتراف بالخطإ وطلب المغفرة والرحمة ، ف (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي : أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه ، (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ذنب ما دعوت به على غير علم مني (وَتَرْحَمْنِي) برحمتك التي وسعت كل شيء فتقبل توبتي (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) في أعمالي فلا أربح فيها. القائل هو الله ، أو الملائكة : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أي : أنزل من السفينة إلى الأرض ، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض ، فقد بلعت الأرض ماءها وجفت (بِسَلامٍ مِنَّا) أي : بسلامة وأمن ، وقيل : بتحية (وَبَرَكاتٍ) أي : نعم ثابتة ، مشتق من بروك الجمل ، وهو ثبوته ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي : ناشئة ممن معك ، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة ؛ وقيل : أراد من في السفينة ، فإنهم أمم مختلفة وأنواع من الحيوانات متباينة. قيل : أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمنا من ذريتهم ، وأراد بقوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) من صار كافرا من ذريتهم إلى يوم القيامة ، وارتفاع أمم في قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي : ومنهم أمم ؛ وقيل : على تقدير : ويكون أمم. وقال الأخفش : هو كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس ، وأجاز الفراء في غير القراءة : وأمما سنمتعهم : أي ونمتع أمما ؛ ومعنى الآية : وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع ، ونعطيهم منها ما يعيشون به ، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم ؛ وقيل : يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى قصة نوح ، وهي مبتدأ ، والجمل بعده أخبار (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) من جنس أنباء الغيب ، والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر ، أي : من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة ، والضمير في : (نُوحِيها إِلَيْكَ) راجع إلى القصة ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة (ما كُنْتَ) يا محمد (تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا) يعلمها (قَوْمُكَ) بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي ، أو من قبل هذا الوقت (فَاصْبِرْ) على ما تلاقيه من كفار زمانك ، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة في الدنيا والآخرة (لِلْمُتَّقِينَ) لله ، المؤمنين بما جاءت به رسله ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ، ولا اعتبار بمباديه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : نادى نوح ربّه فقال : ربّ إن ابني من أهلي ، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي ، وإن ابني من أهلي. وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : «ما بغت امرأة نبيّ قط» ، وقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) يقول : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه قال : إن نساء الأنبياء لا يزنين ، وكان يقرؤها (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) يقول : مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : (يا نُوحُ اهْبِطْ