من الجانب الآخر انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) أي : صدّقت أنه ، بفتح الهمزة على أن الأصل بأنه ، فحذفت الباء ، والضمير للشأن. وقرئ بكسر إنّ على الاستئناف ، وزعم أبو حاتم أن القول محذوف ، أي : آمنت ، فقلت إنه ولم ينفعه هذا الإيمان لأنه وقع منه بعد إدراك الغرق ، كله كما تقدّم في النساء ، ولم يقل اللعين : آمنت بالله أو بربّ العالمين ، بل قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية. قوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المستسلمين لأمر الله ، المنقادين له الذين يوحدونه ، وينفون ما سواه ، وهذه الجملة إما في محل نصب على الحال ، أو معطوفة على آمنت. قوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) هو مقول قول مقدّر معطوف على قال آمنت ، أي : فقيل له : أتؤمن الآن؟
وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة؟ فقيل : هي من قول الله سبحانه ، وقيل : من قول جبريل ، وقيل : من قول ميكائيل ، وقيل : من قول فرعون ، قال ذلك في نفسه لنفسه. وجملة وقد عصيت قبل في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المقدّر بعد القول المقدر ، وهو أتؤمن الآن ؛ والمعنى : إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق ، والحال أنه قد عصى الله من قبل ، والمقصود : التقريع والتوبيخ له. وجملة وكنت من المفسدين : معطوفة على عصيت داخلة في الحال ، أي : كنت من المفسدين في الأرض بضلالك عن الحق ، وإضلالك لغيرك. قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) قرئ (نُنَجِّيكَ) بالتخفيف ، والجمهور على التثقيل. وقرأ اليزيدي : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية ، وحكاها علقمة عن ابن مسعود ؛ ومعنى ننجيك بالجيم : نلقيك على نجوة من الأرض ، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدّقوا أن فرعون غرق ، وقالوا : هو أعظم شأنا من ذاك ، فألقاه الله على نجوة من الأرض ، أي مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه ؛ وقيل المعنى : نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ، ونجعلك طافيا ليشاهدوك ميتا بالغرق ، ومعنى ننحيك بالمهملة : نطرحك على ناحية من الأرض. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : بأبدانك.
وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك ، فقيل معناه : بجسدك بعد سلب الروح منه ؛ وقيل معناه : بدرعك ، والدرع يسمى بدنا ، ومنه قول كعب بن مالك :
ترى الأبدان فيها مسبغات |
|
على الأبطال واليلب الحصينا (١) |
أراد بالأبدان الدروع ، وقال عمرو بن معدي كرب :
ومضى نساؤهم بكلّ مفاضة |
|
جدلاء سابغة وبالأبدان |
أي : بدروع سابغة ودروع قصيرة ؛ وهي التي يقال لها : أبدان ، كما قال أبو عبيدة. وقال الأخفش : وأما قول من قال : بدرعك ، فليس بشيء ، ورجح أنّ البدن المراد به هنا : الجسد. قوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ
__________________
(١). اليلب : الدروع اليمانية.