في القرآن الكذب. قوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قرأ الكسائي : يعزب بكسر الزاي ، وقرأ الباقون : بالضم ، وهما لغتان فصيحتان ، ومعنى يعزب : يغيب ، وقيل : يبعد. وقال ابن كيسان : يذهب ، وهذه المعاني متقاربة ، ومن : في (مِنْ مِثْقالِ) زائدة للتأكيد ، أي : وما يغيب عن ربك وزن ذرة ، أي : نملة حمراء ، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما ، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات ، وقدّم الأرض على السماء : لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب ، والواو في (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) للعطف على لفظ مثقال ، وانتصبا لكونهما ممتنعين ، ويجوز أن يكون العطف على ذرّة ، وقيل : انتصابهما بلا التي لنفي الجنس ، والواو للاستئناف ، وليس من متعلقات وما يعزب ، وخبر لا : (إِلَّا فِي كِتابٍ) والمعنى : ولا أصغر من مثقال الذرّة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة : برفع أصغر وأكبر ، ووجه ذلك : أنه معطوف على محل من مثقال ، ومحله الرفع ، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله ؛ أو على لفظ ذرّة إشكال ، وهو أنه يصير تقدير الآية : لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وهو محال. وقد أجيب عن هذا الإشكال : بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة ، كخلق الملائكة والسموات والأرض ؛ وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأوّل من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأوّل ، فالمراد من الآية : أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات ، والغرض : الردّ على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات. وأجيب أيضا : بأن الاستثناء منقطع ، أي : ولكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني : أن إلا بمعنى الواو ، على أن الكلام قد تمّ عند قوله (وَلا أَكْبَرَ) ثم وقع الابتداء بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : وهو أيضا في كتاب مبين. والعرب قد تضع إلا موضع الواو ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ـ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) (١) يعني : ومن ظلم ، وقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢) أي : والذين ظلموا ، وقدّر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) (٣) أي : هي حطة ، ومثله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) (٤) (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥). وقال الزّجّاج : إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع ، وخبره : (إِلَّا فِي كِتابٍ) واختاره صاحب الكشاف ، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور : أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس ، واستشكل العطف بنحو ما قدّمنا. ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء ، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين ، وكسر لقلوب العاصين ، ذكر حال المطيعين ، فقال : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الوليّ في اللغة : القريب. والمراد بأولياء الله : خلّص المؤمنين ، كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته. وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي :
__________________
(١). النحل : ١٠ و ١١.
(٢). البقرة : ١٥٠.
(٣). البقرة : ٥٨.
(٤). النساء : ١٧١.
(٥). الأنعام : ٥٩.