وينذروا قومهم ؛ وقت رجوعهم إليهم ؛ وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد ، وهي : حكم مستقلّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم ، والتفقه في الدين ، جعله الله سبحانه متّصلا بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد ، فيكون السفر نوعين : الأوّل : سفر الجهاد ، والثاني : السّفر لطلب العلم. ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم ؛ إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر. والفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية ، وبما يتوصّل به إلى العلم بها ؛ من لغة ، ونحو ، وصرف ، وبيان ، وأصول. ومعنى : (فَلَوْ لا نَفَرَ) فهلّا نفر ، والطائفة في اللغة : الجماعة. وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا : هو التفقه في الدين ، وإنذار من لم يتفقه ، فجمع بين المقصدين الصالحين ، والمطلبين الصحيحين ، وهما تعلم العلم ، وتعليمه ، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين ، فهو طالب لغرض دنيوي ، لا لغرض دينيّ ، فهو كما قلت :
وطالب الدنيا بعلم الدّين أيّ بائس |
|
كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس |
ومعنى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) الترجّي لوقوع الحذر منهم عن التّفريط فيما يجب فعله : فيترك ، أو فيما يجب تركه : فيفعل ، ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار ، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة. والشدّة والجهاد واجب لكل الكفار ، وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهمّ وأقدم ، ثم الأقرب فالأقرب ، ثم أخبرهم الله بما يقوّي عزائمهم ، ويثبت أقدامهم ، فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي : بالنّصرة له وتأييدهم على عدوّهم ، ومن كان الله معه لم يقم له شيء.
وقد أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نسخ هؤلاء الآيات (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (١) و (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) (٢) قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يقول : لتنفر طائفة وتمكث طائفة مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالماكثون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم هم الذين يتفقهون في الدين ، وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو ، ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عنه نحوه من طريق أخرى بسياق أتمّ. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضا في هذه الآية قال : ليست هذه الآية في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على مضر بالسّنين أجدبت بلادهم ، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين ، فردّهم إلى عشائرهم ، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قال : الأدنى ، فالأدنى. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قال : «الروم». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) قال : شدّة.
__________________
(١). التوبة : ٤١.
(٢). التوبة : ٣٩.