الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩))
الاستفهام في : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) للإنكار من الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم حيث وقع منه الإذن لمن استأذنه في القعود ، قبل أن يتبيّن من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ، ومن هو كاذب فيه. وفي ذكر العفو عنه صلىاللهعليهوسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى ، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه ؛ وقيل : إن هذا عتاب له صلىاللهعليهوسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه ، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج. والأوّل أولى ، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) (١) ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجّه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب ، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم. وقيل : إن قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) هي افتتاح كلام كما تقول : أصلحك الله ، وأعزّك ، ورحمك ، كيف فعلت كذا؟ وكذا حكاه مكّي والنحّاس والمهدوي ، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على عفا الله عنك ، وعلى التأويل الأوّل لا يحسن. ولا يخفاك أن التفسير الأوّل هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية ، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي. وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلىاللهعليهوسلم ، والمسألة مدوّنة في الأصول ، وفيها أيضا : دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة والاغترار بظواهر الأمور ، و (حَتَّى) في (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) للغاية ، كأنه قيل : لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا تأنيت حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه ، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك؟ ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في القعود عن الجهاد ، بل كان من عادتهم أنه صلىاللهعليهوسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك. فقال : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) وهذا على أن معنى الآية أن لا يجاهدوا ، على حذف حرف النفي ؛ وقيل المعنى : لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد ؛ وقيل : إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له ، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى : لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف. قال الزجاج : أن يجاهدوا في موضع نصب بإضمار في : أي في أن يجاهدوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في القعود عن الجهاد ، والتخلف عنه (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهم المنافقون ، وذكر الإيمان بالله أوّلا ، ثم باليوم الآخر ثانيا في الموضعين ، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله. قوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) عطف على قوله (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم ، وهو الشك. قوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي : في شكهم الذي
__________________
(١). النور : ٦٢.