وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرو وشأس بن عديّ فكلّموه وكلّمهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمد (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) كقول النصارى فأنزل الله فيهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) إلى آخر الآية. وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال : «مرّ النبي صلىاللهعليهوسلم في نفر من أصحابه ، وصبيّ في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، فسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا ، والله لا يلقي حبيبه في النار». وإسناده في المسند هكذا : حدّثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس فذكره. ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث ، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه ، فتلا الصوفيّ هذه الآية. وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا والله لا يعذب الله حبيبه ، ولكن قد يبتليه في الدنيا». وأخرج ابن جرير عن السديّ في قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يقول : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))
المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. والرسول هو محمد صلىاللهعليهوسلم و (يُبَيِّنُ لَكُمْ) حال. والمبين هو ما شرعه الله لعباده وحذف للعلم به ، لأنّ بعثة الرسل إنما هي بذلك. والفترة أصلها السكون ، يقال فتر الشيء : سكن ؛ وقيل : هي الانقطاع. قاله أبو علي الفارسي وغيره ؛ ومنه فتر الماء : إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة ؛ وفتر الرجل عن عمله : إذا انقطع عما كان عليه من الجدّ فيه ، وامرأة فاترة الطرف : أي منقطعة عن حدة النظر. والمعنى : أنه انقطع الرسل قبل بعثه صلىاللهعليهوسلم مدّة من الزمان. واختلف في قدر مدّة تلك الفترة وسيأتي بيان ذلك. قوله : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة : أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم ، و (مِنَ) في قوله : (مِنْ بَشِيرٍ) زائدة للمبالغة في نفي المجيء ، والفاء في قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ) هي الفصيحة مثل قول الشاعر :
فقد جئنا خراسانا
أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ومن جملة مقدوراته إرسال رسوله على فترة من الرسل.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يهود إلى الإسلام ، فرغّبهم فيه وحذّرهم فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد