في قصّة هود (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعل لكم فيها مباءة ، وهي المنزل الذي تسكنونه (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي : تتخذون من سهولة الأرض قصورا ، أو هذه الجملة مبينة لجملة : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وسهول الأرض ترابها ، يتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فيبنون به القصور (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتا تسكنون فيها ، وقد كانوا لقوّتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال فيتخذون فيها كهوفا يسكنون فيها ؛ لأنّ الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم ، وانتصاب بيوتا على أنها حال مقدّرة ، أو على أنها مفعول ثان لتنتحون على تضمينه معنى تتخذون. قوله (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تقدّم تفسيره في القصة التي قبل هذه. قوله (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثي والعثو لغتان ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما يغني عن الإعادة (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) : أي : قال الرؤساء المستكبرون من قوم صالح للمستضعفين الذين استضعفهم المستكبرون ، و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا بإعادة حرف الجر بدل البعض من الكل ، لأن في المستضعفين من ليس بمؤمن هذا على عود ضمير (مِنْهُمْ) إلى الذين استضعفوا ، فإن عاد إلى قومه كان بدل كل من المستضعفين ، ومقول القول : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية. قوله : (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته ، مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم ، هل تعلمون برسالته أم لا؟ مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان ، وتنبيها على أن كونه مرسلا أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه ، فأجابوا تمردا وعنادا بقولهم (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وهذه الجمل المعنوية يقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كما سبق بيانه. قوله (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) العقر : الجرح ، وقيل : قطع عضو يؤثر في تلف النفس ؛ يقال : عقرت الفرس : إذا ضربت قوائمه بالسيف ، وقيل أصل العقر : كسر عرقوب البعير ، ثم قيل للنحر عقر ؛ لأنّ العقر سبب النحر في الغالب ، وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحدا منهم ، لأنهم راضون بذلك موافقون عليه. وقد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه ، فقيل قدار بن سالف ، وقيل غير ذلك (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي : استكبروا ، يقال عتا يعتو عتوّا : استكبر ، وتعتى فلان : إذا لم يطع ، والليل العاتي : الشديد الظلمة (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة ، يقال رجف الشيء يرجف رجفانا ، وأصله حركة مع صوت ، ومنه (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (١) ؛ وقيل كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي بلدهم (جاثِمِينَ) لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر ، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها ، وقيل للناس والطير. والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) صالح عند اليأس من إجابتهم (وَقالَ) لهم المقالة : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ويحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية لحالهم الماضية ، كما وقع من النبي صلىاللهعليهوسلم من التكليم لأهل قليب بدر بعد موتهم ، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم ، وكأنه كان مشاهدا لذلك فتحسر على ما
__________________
(١). النازعات : ٦.