(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))
أمرهم الله سبحانه بالدّعاء ، وقيد ذلك بكون الداعي متضرّعا بدعائه مخفيا له ، وانتصاب (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) على الحال ، أي : متضرّعين بالدعاء مخفين له ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : ادعوه دعاء تضرّع ودعاء خفية ، والتضرّع : من الضراعة ، وهي الذلة والخشوع والاستكانة ، والخفية : الإسرار به ، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء ، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص ، ثم علّل ذلك بقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كلّ شيء ، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى ، والله لا يحبّ المعتدين ، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا. ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له ، كالخلود في الدنيا ، أو إدراك ما هو محال في نفسه ، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة ، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به. قوله (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه ، قليلا كان أو كثيرا ، ومنه قتل الناس ، وتخريب منازلهم ، وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم. ومن الفساد في الأرض : الكفر بالله والوقوع في معاصيه ، ومعنى : (بَعْدَ إِصْلاحِها) : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع. قوله (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) إعرابها يحتمل الوجهين المتقدمين في (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وفيه : أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه ، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه. والخوف : الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها ، والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة. قوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأيّ نوع من الأنواع كان إحسانهم ، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله.
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال قريب ولم يقل قريبة ، فقال الزجّاج : إن الرحمة مؤوّلة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ، ورجح هذا التأويل النحاس. وقال النضر ابن شميل : الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحقّ المصدر التذكير. وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر ، وتذكير بعض المؤنث جائز ، وأنشد :