من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كلّ ما شاء ، وتركوا الشّرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كلّ فريق يدّعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له ، فتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كلّ منصف ، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.
وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (١) ، وقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢) ، وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ـ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٣) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٤) ، وقوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ـ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ـ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ـ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٥) ، والفاء في (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) للتفصيل. والموازين : جمع ميزان ، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال ؛ وقيل : إن الموازين جمع موزون ، أي : فمن رجحت أعماله الموزونة ، والأوّل أولى. وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ؛ وقيل هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال : خرج فلان إلى مكة على البغال ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى من ، والجمع باعتبار معناه ، كما رجع إليه ضمير (مَوازِينُهُ) باعتبار لفظه ، وهو مبتدأ ، خبره (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والكلام في قوله : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مثله ، والباء في (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) سببية ، وما مصدرية. ومعنى (يَظْلِمُونَ) يكذبون. قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لكم فيها مكانا ، وهيأنا لكم فيها أسباب المعايش. والمعايش جمع معيشة ، أي : ما يتعايش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة ، يقال : عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا. قال الزجاج : المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش ، والمعيشة عند الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج «معائش» بالهمز ، وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس : والهمز لحن لا يجوز ، لأن الواحدة معيشة والياء أصلية كمدينة ومداين وصحيفة وصحايف. قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) الكلام فيه كالكلام فيما تقدّم قريبا من قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦). وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) هذا ذكر نعمة أخرى من نعم الله على عبيده. والمعنى : خلقناكم نطفا ثم صوّرناكم بعد ذلك ، وقيل المعنى : خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره ؛ وقيل : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) يعني : آدم ، ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) راجع إليه ، ويدلّ عليه (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنّ ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصوّر آدم عليهالسلام. وقال الأخفش : إن ثم في (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) بمعنى الواو ؛ وقيل : المعنى : خلقناكم من ظهر آدم ثم صوّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. قال النحاس : وهذا أحسن الأقوال ؛ وقيل المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أوّلا ، ثم صوّرنا الأشباح ، ثم قلنا
__________________
(١). الأنبياء : ٤٧.
(٢). المؤمنون : ١٠١.
(٣). المؤمنون : ١٠٢ و ١٠٣.
(٤). النساء : ٤٠.
(٥). القارعة : ٦ ـ ٩.
(٦). الأعراف : ٣.