(ذلِكَ) إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم. وأن في (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) هي المخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف. والمعنى : ذلك أن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى ، أو هي المصدرية ، والباء في (بِظُلْمٍ) سببية : أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم ، والحال أن أهلها غافلون ، لم يرسل الله إليهم رسولا. والمعنى : أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى ، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ؛ وقيل : المعنى : ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه ، فهو سبحانه يتعالى عن الظّلم بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقّوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء ؛ وقيل : المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك ، فهو مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٢) ، (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي لكلّ من الجنّ والإنس درجات متفاوتة مما عملوا فنجازيهم بأعمالهم ، كما قال في آية أخرى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣) ، وفيه دليل على أنّ المطيع من الجنّ في الجنة ، والعاصي في النار (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) من أعمال الخير والشر ، والغفلة : ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. قرأ ابن عامر «تعملون» بالفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) قال : يولّي الله بعض الظالمين بعضا في الدنيا ، يتبع بعضهم بعضا في النار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن زيد في الآية مثل ما حكينا عنه قريبا. وأخرج أبو الشيخ عن الأعمش في تفسير الآية قال : سمعتهم يقولون : إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم. وأخرج الحاكم في التاريخ ، والبيهقي في الشعب ، من طريق يحيى بن هاشم حدّثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كما تكونون كذلك يؤمر عليكم» قال البيهقي : هذا منقطع ، ويحيى ضعيف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) قال : ليس في الجنّ رسل ، وإنّما الرسل في الإنس ، والنذارة في الجنّ ، وقرأ (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٤). وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة أيضا عن الضحاك قال : الجنّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضا عن ليث بن أبي سليم قال : مسلمو الجنّ لا يدخلون الجنة ولا النار ، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضا عن ابن عباس قال : الخلق أربعة : فخلق في الجنة كلّهم ، وخلق في النار كلّهم ، وخلقان في الجنة والنار ، فأما الذين في الجنة كلّهم فالملائكة ، وأما الذين في النار كلّهم فالشياطين ، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجنّ ، لهم الثواب وعليهم العقاب.
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ
__________________
(١). الإسراء : ١٥.
(٢). الأنعام : ١٦٤.
(٣). الأحقاف : ١٩.
(٤). الأحقاف : ٢٩.