قال : الله هو السّلام ، وداره الجنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يقول : من ضلالتكم إياهم ، يعني : أضللتم منهم كثيرا ، وفي قوله : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنّة ولا نارا.
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))
قوله : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي : مثل ما جعلنا بين الجن والإنس ما سلف (كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) والمعنى : نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون أولياء لبعضهم بعضا ، ثم يتبرأ بعضهم من البعض ، فمعنى نولي على هذا : نجعله وليا له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : معناه : نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وروي عنه أيضا أنه فسر هذه الآية بأن المعنى : نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذلّه ، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلّط الله عليه ظالما آخر. وقال فضيل بن عياض : إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجبا. وقيل معنى نولي : نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر ، والباء في (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) للسببية : أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضا. قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي : يوم نحشرهم نقول لهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أو هو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر ، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجنّ رسلا منهم ، كما يبعث إلى الإنس رسلا منهم ؛ وقيل : معنى منكم : أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف ، والقصد بالمخاطبة ، فإن الجنّ والإنس متحدون في ذلك ، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجنّ من تلك الحيثية ؛ وقيل : إنه من باب تغليب الإنس على الجنّ كما يغلب الذكر على الأنثى ؛ وقيل : المراد بالرسل إلى الجنّ ها هنا هم النّذر منهم ، كما في قوله : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١). قوله : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) صفة أخرى لرسل ، وقد تقدّم بيان معنى القصّ. قوله : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم ، والجملة جواب سؤال مقدّر ، فهي مستأنفة ، وجملة (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) في محل نصب على الحال ، أو هي جملة معترضة (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاءوا بها ، وقد تقدّم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرّحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم ، ومثل قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) محمول على أنهم يقرّون في بعض مواطن يوم القيامة وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم ، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول ، وانغلاق الأفهام وتبلّد الأذهان ، والإشارة بقوله :
__________________
(١). الأحقاف : ٢٩.
(٢). الأنعام : ٢٣.