(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))
قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ). قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام. وقرأ نافع وابن أبي نعيم بإسكانها ، قال النحاس : يجوز أن يكون محمولا على المعنى : أي انظروا وتدبروا : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) (١) (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) والمراد بالميت هنا : الكافر أحياه الله بالإسلام ؛ وقيل معناه : كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه. والأوّل أولى ، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين ، وكثيرا ما تستعار الحياة للهداية وللعلم ، ومنه قول القائل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله |
|
فأجسامهم قبل القبور قبور |
وإنّ امرأ لم يحي بالعلم ميّت |
|
فليس له حتّى النّشور نشور |
والنور : عبارة عن الهداية والإيمان ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : الحكمة ، وقيل : هو النور المذكور في قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (٢) والضمير في به راجع إلى النور (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي : كمن صفته في الظلمات ، ومثله : مبتدأ ، والظلمات : خبره ، والجملة : صفة لمن ؛ وقيل : مثل زائدة ، والمعنى : كمن في الظلمات ، كما تقول : أنا أكرم من مثلك ، أي : منك ، ومثله : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (٣) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) وقيل المعنى : كمن مثله مثل من هو في الظلمات ، و (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) في محل نصب على الحال أي : حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال. قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أي : مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية ، والأكابر : جمع أكبر ، قيل : هم الرؤساء والعظماء ، وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد ، والمكر : الحيلة في مخالفة الاستقامة ، وأصله الفتل ، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي : يصرف عنه (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي : وبال مكرهم عائد عليهم (وَما يَشْعُرُونَ) بذلك لفرط جهلهم (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من الآيات (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء ، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة ، ونظيره (يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٥). والمعنى : إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة ، فأجاب الله عنهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولا ويكون موضعا لها وأمينا عليها ، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه ، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم ، ثم توعّدهم بقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ) أي ذلّ وهوان ، وأصله من الصغر كأنّ الذلّ يصغر إلى المرء نفسه ؛ وقيل : الصغار هو
__________________
(١). الأنعام : ١١٤.
(٢). الحديد : ١٢.
(٣). المائدة : ٩٥.
(٤). الشورى : ١١.
(٥). المدثر : ٥٢.